الإنسان عندما يصير وحشاً..!

مطلع هذا الشهر (يوليو 2023) كانت (مدينتي)، وهي تجمع سكني راق يتبع منطقة (القاهرة الجديدة)، على موعد مع جريمة شنعاء، فيها تجسيد حقيقي لتحول الإنسان في لحظات إلى وحش مفترس متخلياً عن آدميته وعن كل الصفات التي تجعله إنساناً وأولها العقل والرشد.
لم يقتصر صدى الجريمة على (مدينتي) فقط، إنما امتد خلال ما تبقى من ساعات اليوم الحزين إلى خارجها عبر منشور على فيسبوك، وفي الأيام التالية كان التفاعل واسعاً وشاملاً لمصر كلها ومقروناً بغضب كامل على القاتل المتوحش، وهو ضابط طبيب يُدعى زياد حسام، وتعاطف كامل مع ضحاياه وهي عائلة مكونة من خمسة أفراد، الأم قتلها هذا المجرم، وأصاب الأطفال وأحدهم إصابته مؤثرة، والأب في حالة ذهول، والله أعلم كيف سينسى الأطفال هذا اليوم عندما هجم عليهم بسيارته وأخذ يتعقبهم أمام مسكنهم بغرض دهسهم جميعاً، وهؤلاء الأطفال بحاجة لعلاج نفسي قد يطول، وقد لا ينمحي أثر ما تعرضوا لهم طوال حياتهم.
أشد من فيلم رعب وإدانة شعبية واسعة
الفيديو الذي شاهدناه لجريمة الدهس يصعب تحمله كما يصعب تصور حدوثه بهذه الكيفية العمدية وبالإصرار البالغ على سحق الأب والأم والأطفال، فهو يهاجمهم مرات بسيارته بسرعة فائقة، حتى يسحقهم جميعاً وكأننا نشاهد فيلماً مرعباً مخيفاً، بل إن أشد مخرجي السينما في برود الأعصاب قد لا يستطيع تصوير لقطات مثل اللقطات الحقيقية في الفيديو.
الجريمة الفظيعة حازت على إدانة فورية من كل الناس في توافق نادر حدوثه، إذ إن سمة المصريين خلال هذه المرحلة هى الاختلاف مما لم يكن موجوداً بهذه الدرجة من قبل، وإذا كان هناك اتفاق – تزايد تدريجياً خلال هذه العشرية – على قسوة الحياة وغلاء المعيشة الفاحش، فلن تعدم أن تجد أصواتاً ولو قليلة لا تزال تقول علينا أن نتحمل، لكن في قضية الضابط الطبيب القاتل فإن العقل الجمعي والمشاعر الكلية توحدت على رفض ما حصل والنقمة على هذا الآدمي فاقد الإنسانية والقلب والمشاعر، والمطالبة بالقصاص منه.
ادعاء سقط سريعاً
حاول البعض حرف القضية عن مسارها بالادعاء أن التداول الواسع للجريمة والغضب على المتوحش تساهم فيه لجان وكتائب الكترونية وجماعات من الناس لكون الفاعل ضابطاً، وهؤلاء لهم موقف من المؤسسة العسكرية.
لكن هذا الزعم تراجع سريعاً لأن رد الفعل الشعبي كان عاماً وشاملاً ضد قاتل بغض النظر عن كونه ضابطاً فقط، أو ضابطاً طبيباً، أو مهندساً أو مدرساً أو عاملاً عادياً، والمشاعر الشعبية عندما تجتمع في وقت واحد على موقف واحد فإنها تكون صادقة خاصة عندما لا يكون للإعلام التقليدي وجود أو دور في متابعة الجريمة، حيث لن يكون هناك أي توجيه أو ربما تضليل أو تمييع الحدث أو الحادثة.
وهذا الإعلام سقط مجدداً، وكما بات معتاداً، في هذه القضية واقتنصها وتفوق على نفسه فيها الإعلام الجديد، إعلام المواطنين، وهو مواقع التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك وتويتر، ذلك أن هذه المنصات أصبحت قوة نشر ورأي وتأثير هائلة وسحبت البساط من تحت أقدام صحف ومجلات فقدت نفسها وسبب وجودها، كما تفوقت على شاشات لم تعد تمثل نبض الشارع، إنما منعزلة عنه تغرد خارج سربه وقضاياه وحياته وأوضاعه.
وحشية منفلتة
معروف أن الوحشية المنفلتة التي سيطرت على الضابط الطبيب بسبب أن أحد أطفال العائلة خدش سيارته بشكل بسيط خلال اللهو، والعائلة ذهبت كلها إليه للاعتذار وإصلاح الخدوش، لكنه هاج وماج وقفز في سيارته وتعقبهم بغرض أذيتهم بشكل مريع، ولهذا وجهت له النيابة العسكرية تهمتي القتل العمد والشروع في القتل، وتم إحالته لمحاكمة عاجلة أمام محكمة الجنايات العسكرية.
الحياة المرفهة
الضابط الطبيب يُعتبر في مركز وظيفي متميز وهو ابن وحيد لعائلة متميزة أيضاً، فوالده أستاذ بكلية الطب، وهو خريج أول دفعة في كلية الطب العسكري، وطلاب الثانوية يتسابقون للالتحاق بها لأنها تقبلهم بمجموع أقل من كليات الطب بالجامعات المدنية، والمتخرج فيها يضمن عملاً في المستشفيات العسكرية وهي مستواها أفضل من نظيراتها المدنية، ويحصل على راتب وامتيازات تساعده على تأسيس حياة مريحة.
تقديري أن الحياة المرفهة ليس بالضرورة أن تدفع أي شاب إلى العدوانية الشرسة، والاستهتار بحياة الناس، نعم، قد يحدث هذا، لكنها ليست ظاهرة، ولا أظن أن أي ضابط أو ضابط طبيب قد يندفع لارتكاب فظائع، فليس كل الضباط هكذا، ولا كل الضباط الأطباء هكذا أيضاً، إنما قد يستبد الهوس بحالات فردية فينتهجون سلوكيات كريهة منبوذة.
صدمة الرأي العام
الحقيقة، هناك حوادث مشابهة عديدة، وهناك جرائم كثيرة غير متوقعة، هناك دهس أبرياء بسيارات، سواء متعمد، أو ناتج عن اشتباكات فجائية عنيفة في الشارع، وهي جرائم مُدانة، ولا يمكن تبريرها، إنما جريمة (مدينتي) تبدو الأغرب والأكثر استهجاناً وصدمة للرأي العام، وعموماً الجريمة فردية دوماً، وكل سلوك خارج عن القانون بحاجة لفهمه في سياق ظروفه ودوافعه.
كل ما يُحيط بالضابط الطبيب القاتل في حياته يدفع لاستبعاد إقدامه على ارتكاب هذا الفعل الآثم، فلا مشكلة أو معاناة لديه، بعكس مئات الوف الشباب غيره، وهو في صفحته على فيسبوك يبدو متديناً دون تشدد، وله شيخ يتعلق به، ومحب للدكتور مصطفى محمود، ومتعاطف مع الحيوانات وخاصة الكلاب، ويظهر كشخص طبيعي غير أنه لا يجيد الكتابة بلغة عربية بسيطة سليمة.
القصاص العادل ضروري، ودراسة حالة وشخصية القاتل نفسياً وعقلياً ضرورية أيضاً، ليس لمحاولة إفلاته من المسؤولية الجنائية، إنما لفهم كيف يصير الإنسان ثوراً هائجاً ووحشاً قاتلاً في لحظات، ثم يندم ويقول: لا أدري كيف فعلت ذلك؟، كما قال هذا الذي دمر حياة عائلة كانت ترفل في السعادة.