الوطن والصورة المؤلمة.. أذّن يا بلال

فجأة شعرت بالألم يمزّق فقرات عنقي، انسابت من عيني دموع كنهر لم أتعوده سوى في حالة وفاة أمي، لم أستطع السيطرة على الدمع الذارف لمدة تتجاور الساعة في هذا الصباح، فالألم الذي تركته الصورة المنشورة أعاد إليّ لحظة رحيل أمي حينها أمضيت ثلاثة أيام وعيني تنزف دمعًا لم يتعوده أهل القرية مع شاب يمضي خدمته العسكرية ويجلس في سرادق العزاء لا يستطيع السيطرة على أعصاب العين فيكف عن البكاء، كانت أمي وطني وبين راحتيها أجد صورة الخضار والنماء والأحلام، وفي بيتها الطيب احتضن وطنًا ويحتضنني.
صرخ في قلبي ألم يعادل آلام فقرات العنق وسيل الدموع، ارتكت على كفي تاركًا الآلام تستحوذ على جسدي الذي تنكهه الغربة، صحوت اليوم وفي منامي صور من الوطن وطفولتي وأصدقاء فرقتنا شمس البعاد وقسوة الأوطان، لكن الألم الذي تركته صورة صديقي النبيل فنان مصر وصوتها الحقيقي منذ منتصف الثمانينيات وحتى غيابه القسري لا يحتمل، آآآه نعم الألم في صورة إيمان لا يحتمل أتذكره شامخًا يتألم على مسرح ليالي التليفزيون في أوائل التسعينيات.
قول يا قلم قول
قول يا قلم
أصرخ ولم الناس
افتح لنا الكراس
صفحة قصاد عينا نقرا ضمائرنا
أعاود النظر إلى هذا الراقد في فراشه، أي يد غادرة امتدت إليك يا ابن البحر والسماء، وحفيد الشهاب الذي أضاء سماء بدايات القرن العشرين؟ أي ألم تحملت في غيبتك عنا أيها الراقد في سلام الإيمان. أتذكرك يا إيمان ونحن نتقابل على بوابة ماسبيرو بطولك الفارع، ووجهك الباسم، وثقتك في ذاتك بما تحمل من ثقافة، علم موسيقى، وهم وطني كبير، لم تتكلف الكلمات لم تغص في غربتها بحثًا عن مهرب حين تسأل فتجد إجابة السؤال “إنها الحبيبة وليس الوطن، إنها الغربة، وليس الإخفاء” لم تتخف أبدًا يا صديقي.
شيء غريب حــسيــتــه لـما
كــــنــتي مرّه.. مره.. بـتـحـــضنيني
يا بــــــــلـــــــــدنا.. يــــــــا بــــــــــلـــــد
هو من أمتى الولد. بيخاف من أمه
لـــــــــــمــــــــــــــــــا فـ الضلمه
تــــــــــــــضـــــمّـــــه
صــــــــــدقـيـني.. خــــفــــــت مـنـك
خـــــــفـــت مـنـك.. صــــــدقــيــنـــــي
كم مرة التقينا كنت فيها الإنسان نفسه لم تغيرك الدنيا ولا النجومية، تلك التي كانت كافية لك لتعيش في نعيم ورفاهية، وعلاقات لا تنتهي مع ملذات الحياة كآخرين، لكنك لم تفعل، حاربوا إيمان صاحب الكلمة، عندما صرت نقيبًا للموسيقيين قلت “عادت النقابة للفن الأصيل وستعود الكلمة واللحن للناس”، لكنهم لم يحتملوا وجودك إلا قليلًا، يومها تركت كما تعودت أن تترك الصراعات والحياة الزائلة، يومها لم تنافق ولم تتخل عن إيمانك برسالتك، كما فعلتها يوم صرختك من أجل النيل، الذي أخفيت أو اختفيت، ولم تعد إلينا إلا في تلك الصورة المؤلمة التي أرى ما خلفها بوضوح.
مكتوبلي أغنيلك
وأغزل مواويلك
وإن جف نبع الحب
يروي عسل نيلك
أتذكر يا صديقي يوم تم اغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة في 30 سبتمبر/أيلول سنة 2000 في اليوم التالي لانتفاضة القدس، وأنا أجري في طرقات ماسبيرو بحثًا عن ألبومك الجديد عن فلسطين، ولم تكن كل أغنياته موجودة في مكتبة التليفزيون المصري، لترسله لنا بعد دقائق ليكون أيقونة اليوم الفلسطيني الذي شاركت فيه مع أبناء ماسبيرو تضامننا مع شعبنا العربي في فلسطين، كان الألبوم يحمل اسم أذّن يا بلال، وضم ست أغنيات هي يا الأقصى يا جنة، في سبيل الله، سيف الله، أحرار، آن الأوان.
أذّن يا بلال فوق الأقصى
وأنده للخلق اللي ها تنسى
أذّن يا بلال.. كبّر لصلاه
تجمعهم تاني لبيت الله
وتطمن قلب رسول الله
أذّن يا بلال
الصورة التي نشرتها ابنتك ليلة الثلاثاء على صفحتها هي صرخة ندائك الأخيرة هي أذنك التي ناديت بلال أن يؤذن بها منذ ربع قرن حينما لم تخف ولم تهن في قضيتك الكبرى، الآن تنادينا يا فناننا الصادح الصادق، تنادي شعبًا وتناجي أمة، تدعونا أن ننفض عنا عباء الخوف الذي ملأ جوانب حياتنا وتدثر بعباءة جلدنا الذي انكمش رعبًا يداوي جراجًا لا تحتمل، كما صورتك تلك التي أسالت دموع الجنين والألم والخوف.
ما الذي دفعك يا إيمان البحر أن تترك عالم الفنون وعالم الأساطير والصراعات الفنية الرخيصة لتكون صوتًا لألمنا وأوجاعنا؟ إلا حروف اسمك الذي اختاره لك الله إيمان ما أروع الاسم ودلالته، وما أسعدك به، وما أحزننا أن تقف عاجزين عن الرد عنك، أنت يا صديقي لست مغنيًا يجري وراء متع الحياة، بل صوت الأذان وصوت الإخلاص لأمته، ولنا، هل أقول لك “لا تحزن” كما قالها مولانا جلال الدين الرومي لابنه، فبعد الألم يأتي التطهر والأمل، وألم يكن الألم اختبارًا لكل المخلصين، المحبين المؤمنين؟ الألم يا صديقي هو طريق النجاة ودليل المحبة، كما هو طريق كشف الإخلاص، والوفاء بالعهد، لا تحزن يا إيمان فهو إثبات للاسم ومعناه، هو دليل الوفاء بالعهد فلا تحزن، ولن أذكرك بما فعلت آخر صورة مثل تلك في مبارك وأولاده، فيكفيك أنك وعدت فأوفيت حتى النفس الأخير لم تستسلم ولم تهن يا إيمان.
في سبيل الله
كل شيء بيهون
مالك وعمرك وكلك
إي شيء في الكون
إيه يعني مات البدن
إيه يعني راح الصوت
عايش في جنة عدن
هو الشهيد بيموت؟
..