الحضارة الغربية في ميزان حرب أوكرانيا وقمة ليتوانيا

كنت أتمنى أن لو كان البند الأول بقمة الناتو في ليتوانيا، الثلاثاء والأربعاء الماضيين، يتضمن طرح مبادرة أوربية تنهي الحرب الروسية-الأوكرانية التي دخلت شهرها السابع عشر دون أي بوادر للحسم أو الإنهاء، بل على العكس تمامًا أصبح التصعيد سيد الموقف أوربيًا وأمريكيًا على وجه الخصوص، مع إعلان الولايات المتحدة مد أوكرانيا بقنابل عنقودية، ثم إعلان فرنسا مدها بصواريخ بعيدة المدى، وهو ما يشير إلى أننا أمام حرب مستمرة، ما دام الغرب قد وجد ما يحقق الهدف بالوكالة، على الرغم من سقوط 200 ألف قتيل على الأقل، حسب الأرقام المعلنة.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقبلها الحرب العالمية الأولى، وسقوط ما يزيد على 80 مليون قتيل في الحربين معظمهم من المدنيين، وتدمير غير مسبوق لكل مقومات الحياة، ظن البعض أن الغرب قد اكتوى بنار الحروب، وآن الأوان لتفعيل لغة المنطق، وتحكيم العقل، مع تطور حضاري وتكنولوجي كبير شهدته معامل وأبحاث ودراسات، وأيضًا قوانين الدول الغربية بشكل خاص خلال القرن العشرين، الذي شهد اختراعات واكتشافات مذهلة على الأصعدة كافة.
الوجه القبيح
الغريب أن العقلية الغربية كشفت عن وجهها القبيح بأسرع مما نتصور، وذلك بصناعة بؤر صراع في مناطق متعددة من العالم، حتى تضمن استمرار صناعة الأسلحة وتجارتها ومكاسبها بالدرجة الأولى، ثم ابتزاز الدول النامية والحصول على ثرواتها بطرائق مختلفة، وكانت أولى هذه البؤر، عملية توطين اليهود على أرض فلسطين لصناعة دولة يهودية، ثم عمليات ترسيم خبيثة ومريبة للحدود بين عدد كبير من الدول حول العالم قبيل انسحاب جيوش الاستعمار، أصبحت معها هذه الدول أمام قنابل موقوتة في البر والبحر على السواء.
النتيجة الطبيعية أنه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تتوقف النزاعات والمواجهات المسلحة الداخلية والخارجية في معظم أنحاء العالم النامي وقاراته، بدعم سياسي وعسكري غربي بالدرجة الأولى، ولم يتوقف دعم الغرب ذات يوم للأنظمة الديكتاتورية بشكل خاص، مع استخدام ورقة الحريات وحقوق الإنسان في الوقت نفسه للتلويح بها في وجه الأنظمة التي قد تفكر أحيانًا في الخروج من الهيمنة الغربية، مع سيطرة واضحة على المنظمات الدولية (الشكلية) وفي مقدمتها الأمم المتحدة.
لم تتوقف الأطماع والطموحات الشريرة للغرب على أبواب قارات الدول النامية فقط، بل راحت الآن تعبث من جديد بمقدرات قارتها العجوز، الشحيحة المقدرات أساسًا، أملًا في استنزاف الاتحاد الروسي الغني بالمقدرات الطبيعية، في تغليب واضح للنوازع والجينات الغربية والأمريكية المتخمة تاريخيًا بالحروب والقتل والدمار والاستعباد والإبادة والقرصنة، منذ عصور ما قبل الفايكنج في القرن الثامن الميلادي، وحتى الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والغربي بشكل عام في القرن العشرين، وانتهاءً بالغزو الأمريكي في القرن الحادي والعشرين لكل من العراق وأفغانستان تحت سمع المنظمات الدولية وبصرها.
ورغم ما عاناه الغرب في الحربين العالميتين، ورغم توقعات بمعاناة أكثر ضراوة إذا ما تطورت حرب روسيا-أوكرانيا واتسعت، إلا أننا لم نشهد أي تردد في إذكاء نار هذه الحرب، التي كان يمكن ألا تستعر بكلمة واحدة، أو من خلال قرار واحد، هو رفض انضمام أوكرانيا إلى الناتو، إلا أنه بدا واضحًا أن الترتيب للحرب والإعداد لها قد بدأ مبكرًا، منذ تنصيب فلوديمير زيلينسكي رئيسًا في كييف، ولم نسمع أيًا من أصوات التمرد الرسمية على جنرالات الحرب في العواصم الغربية -على الرغم من وجودها- بما يضيف إلى الشك في المزاعم الديمقراطية هناك بشكل عام.
تصديق الأوهام
لقاء قادة 31 دولة ممن يزعمون التحضر والتطور تعانقوا في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا وتحدثوا على مدى يومين، لم يتطرق أي منهم إلى مسار إنهاء الحرب أو ضرورة وضع حد للنزاع، باستثناء ما أشار إليه الرئيس التركي في سياق الحديث حول اتفاقية نقل القمح، بل على العكس كان التصعيد سيد الموقف، بوعود جماعية وفردية بمزيد من الدعم المادي والعسكري، ونبرة تحدٍ واستعلاء واضحة، تؤكد أن القادم أسوأ، ما دامت الخطط الموضوعة -من أعلى- تسير في هذا الاتجاه، وهو الأمر الذي يؤكد أننا أمام أوهام كبيرة تتعلق بنشر السلام والأمن، كان من المهم أن تتداركها الشعوب المقهورة لأسباب عديدة.
أعتقد أن شعوب العالم الثالث، وخاصة العربية منها كانوا وما زالوا الأكثر تصديقًا لهذه الأوهام وحتى الآن، حيث باتوا يعوّلون على المنقذ الغربي والأمريكي من براثن الظلم والديكتاتورية داخل أوطانهم، دون أدنى قراءة لكتب التاريخ، أو تدبر للماضي والحاضر على أرض الواقع، وهو الأمر الذي أطال من أمد الظلم ومن عمر الديكتاتوريات ومن واقع سيئ على الأصعدة كلها، وفي الحقيقة لم يكن المنقذ المنتظر إلا أحد أدوات البطش والقهر، ويكفي أن نعلم أن الغرب كان وما زال المصدر الرئيس لتوريد أدوات التعذيب، ناهيك من أسلحة القتل والدمار أيضًا.
وتجدر الإشارة إلى أن المبادرة الوحيدة لإنهاء هذه الحرب العبثية كانت قد قدمها الشهر الماضي عدد من الدول الإفريقية، قام قادتها بزيارة إلى كل من موسكو وكييف، بخلاف مبادرة إعلامية طرحتها الصين من قبل، إلا أن الغريب في الأمر، هو أن المبادرة الإفريقية رغم جديتها لم تنل حتى الاهتمام الإعلامي الغربي، ولا السياسي بالطبع، بل انتقدها الرئيس الأوكراني في اللحظات الأولى قبل مناقشتها، على اعتبار أن وقف الحرب ليس هدفًا غربيًا في حد ذاته!!
الشواهد كلها تؤكد أنه قد آن الأوان إقليميًا وعربيًا للخروج من دائرة الهيمنة الغربية على المستوى الرسمي، وعدم التعويل شعبيًا على وعودها المزمنة، مع الوضع في الاعتبار تلك الآفات البغيضة الآخذة في الانتشار هناك أخيرًا، والمتعلقة بالشذوذ وزواج المثليين والمحارم، وغير ذلك من التوجهات الغربية والأمريكية اللا أخلاقية التي لا يتورعون عن الإعلان بفرضها على غيرهم، وهو ما يؤكد من جديد أن حجم الأكذوبة الحضارية الآخذ في التعري، لم يعد في حاجة إلى أدلة وبراهين، وربما كانت قمة ليتوانيا مجرد دليل جديد.