إحراق المصحف في السويد.. “تحديات وفرص”

أحمد علوش

يبدو أنّ عود الثقاب الذي أشعل به العنصري المتطرف سلوان موميكا نسخة من المصحف الشريف، صبيحة عيد الأضحى المبارك أمام مسجد ستوكهولم الكبير، والذي كان سبقه عود ثقاب آخر منذ سنوات، تسبب في حرق نُسخ أخرى من المصحف الشريف بمدن سويدية عدة، على يد العنصري الدنماركي الأصل راسموس بالودان، هو العود نفسه الذي كاد أن يحرق أمس السبت نُسخا من التوراة والإنجيل، أمام السفارة الإسرائيلية في ستوكهولم، لولا تعقّل السويدي من أصول سورية أحمد علوش، واكتفاؤه بالتظاهر دون الحرق، في رسالة واضحة إلى من يعنيهم الأمر من مروّجي خطاب الكراهية، أنّ هناك فرقا بين حرية التعبير وجرائم الكراهية، مؤكدا أنه “لا يحمل معه إلا المصحف الذي يحث المسلمين على احترام جميع الكتب الدينية”، وأن الإسلام يحرّم الإساءة إلى مقدسات الآخرين ويرفضها تماما، كما يرفض الإساءة إلى مقدسات المسلمين.

ويرى مراقبون أن لهب هذا العود إن لم يطفَأ بقوانين واضحة وصارمة، تجرّم الإساءة إلى الأديان وحرق الكتب المقدسة، فإنه يُخشى أن يهدد بإشعال مزيد من الحرائق على امتداد مساحة السويد، حرائق قد يصعب السيطرة عليها أو إطفاؤها.

استشعار سويدي بالخطر

هذه التطورات المتسارعة، وردود الفعل التي قد تخرج عن السيطرة، أقلقت الحكومة السويدية التي استشعرت الخطر، فسارعت إلى تمرير جرعات وعود، بسنّ تشريعات قانونية، من المتوقع أن تحدّ من أفعال الكراهية، وتجرّم الإساءة إلى الأديان وحرق الكتب المقدسة.

أبرز هذه المواقف جاء على لسان رئيس الحكومة السويدية أولف كريسترسون، خلال لقائه ممثلي المسلمين والمسيحيين واليهود في مكتبه الأسبوع الماضي، صبيحة سفره إلى فيلنيوس حيث التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -المعنيّ بشدة بهذا الملف- على هامش قمة حلف شمال الأطلسي، فقد دعا كريسترسون بعد لقائه ممثلي الإدارات الدينية السويدية، إلى محاربة الكراهية في المجتمع السويدي، التي تدفع الناس إلى حرق المصحف أو الكتاب المقدَّس أو التوراة، مشيرا إلى أن مسارا قانونيا بطيئا قد بدأ لمراجعة تشريعات قد تحظر حرق الكتب المقدسة.

بدوره، أعلن وزير العدل السويدي غونار سترومر في تصريحات صحفية، أن حكومته تراجع حاليا، الحاجة إلى إقرار تعديل قانوني لحظر حرق المصحف، بعد ارتفاع مستوى التهديدات الإرهابية التي تواجهها السويد، مشيرا إلى المخاطر الأمنية على سلامة السويديين، وإلى اقتحام السفارات السويدية في الخارج.

من جانبه، أكد رئيس مركز مكافحة التطرف العنيف في السويد يوناس ترول الحاجة إلى تعديل قانون النظام العام لحظر حرق المصحف، وأكد أن القانون الأساسي يتيح تقييد حرية التعبير، حال وجود مخاطر على الأمن القومي، أو ظهور تهديدات إرهابية.

وزير الخارجية السويدي توبياس بيلستروم -بدوره- دعا منظمة التعاون الإسلامي إلى اجتماع من أجل إطلاع دولها على جهود بلاده في مكافحة الإسلاموفوبيا.

غالبية السويديين معارضون

استطلاع للرأي أجراه مركز (Kanter Public) لصالح التلفزيون الرسمي (SVT) أظهر أنّ غالبية السويديين يريدون حظر حرق المصحف الشريف.

وقال 53 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع “يجب منع حرق الكتب المقدسة لكل الأديان”. وأظهر الاستطلاع أن نسبة من يريدون حظر الكتب المقدسة زادت بنسبة 13 بالمئة، مقارنة بالسؤال نفسه الذي طرحه (Kanter Public) في فبراير/شباط الماضي.

مظاهرات استنكارية حاشدة

جنسية سلوان موميكا المسيء إلى القرآن الكريم بغض النظر عن ديانته، أعطت بعدا آخر لتجرئه على القرآن الكريم، فجاء الاستنكار كبيرا مستشيطا غضبا، من تطاوله على النسخة الشريفة، وما رافقها من تطاول لفظي على المسلمين.

فقد نظّم اتحاد الجمعيات الإسلامية، بالتعاون مع مساجد وأئمة وشخصيات إسلامية فاعلة، تظاهرات احتجاج حاشدة في مدن سويدية عدّة، كان أبرزها في ستوكهولم العاصمة ومدينة مالمو، عبّر خلالها المتظاهرون عن حزنهم العميق، وغضبهم الشديد لما يتعرضون له من جرائم كراهية في السويد، وآخرها إحراق نسخة من المصحف الشريف صبيحة عيد الأضحى المبارك، أمام أكبر مركز إسلامي وأهم مسجد في العاصمة السويدية.

ورفع المتظاهرون نسخا من المصحف الشريف، ورتلوا بشكل جماعي آيات من الذكر الحكيم، مؤكدين اعتزازهم بالقرآن الكريم، ودعوا إلى وقف جرائم الكراهية ضدهم.

وأكد المتظاهرون، في بيان قرأه رمضان بو سعيدي باسم الجمعيات والمؤسسات الإسلامية في جنوبي البلاد، أن السويد الآن على مفترق طرق، وهي أشبه بسفينة تتعرض لعاصفة هوجاء من الكراهية تهدد بغرقها، إن لم يتعاون المجتمع السويدي بمختلف مكوناته للحفاظ عليها، وذلك بترسيخ قيم العدالة والحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان، في مواجهة تنامي العنصرية والكراهية والتمييز. ودعا البيان المسؤولين السويديين إلى الوعي بالفتنة، والحذر من الانجرار وراء “مخططات تريد أن تحوّل السويد إلى ساحات حرائق متنقلة”، وفق وصف البيان.

إدانات عربية وإسلامية لحرق المصحف

أدانت منظمة التعاون الإسلامي حرق المصحف الشريف في قمتها الطارئة بمدينة جدة السعودية، واستنكرت بشدة جريمة الكراهية هذه، وطالبت السويد باتخاذ تدابير صارمة لمنع تكرار ذلك، كما طالبت بتطبيق القانون الدولي الذي يحظر أي دعوة للكراهية الدينية.

بالتزامن، استدعت مجموعة من الدول العربية والإسلامية سفراء السويد لديها، وأبلغتهم احتجاجها الشديد على حرق المصحف، ودعت السويد إلى وقف كل ما يتعارض بشكل مباشر مع الجهود الدولية الساعية لنشر قيم التسامح والاعتدال ونبذ التطرف، وتقويض الاحترام المتبادل للعلاقات بين الشعوب والدول.

كما امتنعت إيران عن تعيين سفير جديد لها في السويد، مع مطالب ملحّة من السلطات العراقية للسويد بتسليم مواطنها لمعاقبته على فعلته.

بابا الفاتيكان غاضب من مجرد السماح بالحرق!

ليس العرب والمسلمون وحدهم من استفزهم الحادث، فالاستنكار المتعوَّد عليه من عواصم عالمية وغربية، يصل هذه المرة إلى الفاتيكان، فالبابا فرانسيس الثاني استنكر حرق المصحف، وعبّر عن غضبه الشديد واشمئزازه، مشيرا إلى أن مجرّد السماح بذلك أمر مرفوض ومدان، وأن الحرية لا تعني الإساءة إلى الآخر، وفق تصريحه.

مثل استيائه جاء الاستياء الأوربي، فقد أكد الاتحاد في بيان له رفضه حرق نسخ من المصحف الشريف، أو أي كتاب سماوي آخر، رافضا الممارسات العنصرية التي تعكس كراهية الأجانب على أراض أوربية.

أما الحكومة السويدية، فقد التحقت بالركب بعد ثلاثة أيام من الواقعة محاولة إخماد حريق أسهمت بشكل غير مباشر في صب الزيت على ناره، وقد منحت السلطات فيها ترخيصا يسمح لموميكا بحرق المصحف الشريف في قلب العاصمة ستوكهولم، تحت بند الحفاظ على سقف الحريات، بعد أن قض سقف حرية المسلمين بهذه الحادثة. تدين الحكومة السويدية تصرفات موميكا، وتصفها بأنها “معادية للإسلام”، كأنما كان خفيّا عليها أن ما أذن به نظامها الأساسي يصب في هذا العداء. تصرّف الحكومة السويدية يجعلها محل تساؤل من كثيرين عن مدى وضوحها في خطواتها، وتحمل تداعيات ما تسمح به قوانينها، التي قد تأتي على سلمها، وهي أرض لمئات الآلاف من المهاجرين المسلمين، وفق ما تحذر منه أجهزتها الأمنية.

“الحرق” يضيء طريقا لنبذ كراهية الأديان

لعل ما يستفاد من الحرق الأخير للمصحف الشريف في ستوكهولم، أن نيرانه وإن آذت الشعور الإسلامي العام، فإنها قد تنير دربا من الفرص والإصلاحات، في مجال الحفاظ على المشاعر، وضبط التصرفات التي من شأنها أن تزدري الأديان وتمس بالمقدسات الدينية.

فالتضامن ووحدة المواقف العربية والإسلامية كلها تصب في هذا الإطار، وتنمّ عن حساسية الموقف وقداسة كتاب الله في قلب الأمة الإسلامية، ووجوب تعريف الغرب بمكانة القرآن الكريم عند المسلمين.

لكن الأهم من ذلك أن يتجسد التضامن المحلي من قِبل المسلمين في السويد بمختلف مذاهبهم، لتنسيق مواقفهم في مواجهة جرائم الكراهية التي تطالهم.

وأن تتحرك مؤسسات المجتمع المدني السويدي لمنع أي استفزاز لأي دين من الأديان، في بيئة تتقاطع فيها الأديان والمِلل والنحَل، لتؤكد وجوب الوقوف على خط احترام الآخر بحزم، وألا يُسمح لأي شخص بأن يهزّ الخيط الناظم للحياة المدينة، في بلدان التنوّع فيها سيف ذو حدين.

قد يكون مفيدا جدّا التوقيع على ميثاق شرف بين المؤسسات الدينية وممثلي بقية الإثنيات لمواجهة العنصرية وخطاب الكراهية، لأن أي كلمة تقدح في هلال مسجد اليوم، قد تصيب صليب بقية الكنائس غدا، وقد تُهلك الكنيس اليهودي مستقبلا، إن لم تضبط الحريات وتصطف محترمة لحدودها أمام المقدسات.

مثل هذ الخطوات إن تحققت بروية وتعقل واستيعاب لأهميتها، وانضباط من قِبل ممثلي الأديان في السويد أو غيرها، ستكون بحقّ ضاغطا مهمّا على صناع القرار، من أجل تعديل قوانين بعينها، ومنع كل ما يمكنه تعكير صفو الناس، بالسماح لأي مخالف لهم بالإساءة إلى رموزهم الدينية.

غير أن هذه الصورة التي تبدو حتى الآن مثالية جدّا في أوربا، يكتسحها اليمين المتطرف في أكثر دولة، وسيواجه المسلمين والعاملين على هذا المشروع أكثرُ من تحدٍّ، فالقوانين ستتيح للكثيرين الإساءة إلى مشاعر المسلمين ومقدساتهم تحت بند “حرية التعبير”.

كما سيستمر التعامل مع المسلمين ومقدساتهم بشيء من اللامبالاة، طالما أنه لا اهتمام بهذه المقدسات إلا حينما تهان، وكذا لأن انخراط المسلمين في الحياة العامة والعمل السياسي على وجه الخصوص ضعيف مقارنة مع غيرهم.

غياب إعلام محلي يعكس حياة المسلمين في السويد ويقربهم من المجتمع الموجودين فيه، له بالغ الأثر السلبي على التعريف بأنفسهم وبأوضاعهم وحقيقة دينهم، وجعلهم داخل قوالب نمطية سلبية.

ولا يغيب هنا حظ المسلمين من التراخي، فغالبيتهم يهملون أدوات ووسائل مهمة لتمكينهم في أوطانهم الجديدة، كإغفالهم استخدام القانون، وذلك من خلال تكليف مكتب محاماة أو محامين أكفاء لمتابعة شؤونهم، وأيضا زهد غالبيتهم في الحياة السياسية، وإهمال تدريب كفاءات وقيادات من الجيل الجديد، إعلاميا وسياسيا وحقوقيا واجتماعيا، لحمل القضايا الأساسية للمجتمع السويدي، ورفع نسبة الوعي بها.

الضارة النافعة

في الوجه المشرق من لهيب ما أُحرق في العاصمة ستوكهولم، زيادة حرص السويديين وغير المسلمين عامة، على التعرف على كتاب الله ونبي الإسلام، بسبب غضب المسلمين لأجلهما، بينما ينظرون هم إليهما على أنه مجرد كتاب يُحرق أو رجل يُرسم.

أيضا شهدت مساجد كثيرة بسبب ذلك، دخول بعض هؤلاء الإسلام، والاقتراب أكثر من دين لا يسمح أتباعه أن يهان نبيه أو كتابه.

وقد يكون هذا أيضا صحوة للمسلمين أنفسهم، وعودتهم إلى قيم دينهم الحضارية، يتجلى ذلك بأداء الآلاف منهم صلاة العيد في الساحات العامة، وكذا التعاون المستجد بين المؤسسات الإسلامية في القضايا العامة.

سيفيد ذلك أيضا في إطلاق التفكير في مشروعات استراتيجية، لتحقيق الاندماج الإيجابي في المجتمع الجديد، مع المحافظة على الهوية الثقافية في هذه البلاد.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان