وجوه على شط القناة

كان الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي هو نجم اللحظة في تلك الأيام، سواء من خلال مجموعة الأغاني التي قدّمها مع بليغ حمدي وعبد الحليم حافظ استعدادا للمعركة، حتى أن الثلاثي لم يبارحوا استوديوهات الإذاعة المصرية أياما عديدة حتى صباح يوم الثامن من يونيو/حزيران 1967، وتشهد أروقة الإذاعة المصرية ودرجات السلم في الدور السابع بها انهيار حليم وبكاء بليغ عندما علما بانسحاب القوات المصرية ومع أخبار الهزيمة.
اختار عبد الحليم حافظ المشاركة في حفلات المجهود الحربي مع كل فناني مصر تحت رعاية الإذاعة المصرية، وبأشعار الأبنودي، وألحان بليغ حمدي أيضا، وقدّموا (عدى النهار) و(المسيح)، وكان عبد الحليم يبدأ كل حفلاته الغنائية بنشيد (أحلف بسماها وبترابها)، وجد بليغ في عبد الرحيم منصور تجربة جديدة لنوع من المسرحيات الغنائية التي تقدّم جزءا من تاريخ مصر، لكن الأبنودي قرر أن يكون على شط القناة.
في تلك الأوقات، كان هناك صوت مصري يشق طريقا قادما من الجنوب، كان هذا هو المغني المصري الذي كان صوتا فيه كل صفات مرحلة المقاومة، صوتا خشنا لكنه يحمل دفئا مميزا، قويا يحمل حنانا منقطع النظير، خريج كلية الفنون الجميلة قسم العمارة، ابن النوبة محمد حمام، وقرر حمام أن يرافق الأبنودي إلى السويس.
كان معهما الملحن صاحب الأنغام المصرية الأصيلة والقوية أيضا إبراهيم رجب، وهو صاحب ألحان أكثر من 48 عملا تلفزيونيا وسينمائيا، مثل المقدمة والنهاية لمسلسل (علي الزيبق)، وأغاني فيلم (شفيقة ومتولي) الذي قدّم كل أغانيه ما عدا (بانوا) وكانت من تلحين كمال الطويل.
قدّم إبراهيم رجب أيضا لعبد الحليم أغنيتين من أجمل أغنياته الوطنية، هما (يا بلدنا لا تنامي) و(من قلب المواكب)، وللمجموعة قدّم أغنية (تعيشي يا بلدي)، ومن الأغاني الشعبية (أنا عايز صبية) لمحرم فؤاد، كما قدّم عددا من المسرحيات لمسرح العرائس، ولمسرح الدولة.
هكذا اتفق الثلاثي الأبنودي وحمام ورجب على الرحيل إلى السويس، ليكونوا جزءا من مقاومة الوطن وعلى خط المواجهة الأول، وهناك كان اللقاء والمعايشة مع فرقة (أبناء الأرض) بقيادة الكابتن غزالي.
يا بيوت السويس
كانت تجربة فرقة (أولاد الأرض) قد بدأت في الانتشار بين أبناء السويس ومدن القناة، بل امتد الأثر إلى كل مصر، وبدأت الإذاعة المصرية والإذاعات المحلية تعطيها الاهتمام، فقد جاءت الصرخة من شط القناة في موعدها مع رفض الهزيمة التي مُنيت بها الجيوش العربية، وقدّمت الفرقة العديد من الأغنيات التي تشحذ الههم، منها (يا رايح السويس) (يا ريس البحرية) (الله معاكي يا مصر) (والله لترجع لبيتك ولغيطك يا خال) (فات الكتير يا بلدنا) (بتغني لمين يا حمام) (غنّي يا سمسمية) (أنا صاحي يا مصر).
وبينا ياللا بينا
نحرّر أراضينا
وعضم اخواتنا نلمّه نسنه
ونعمل منه مدافع وندافع
ونجيب النصر هدية لمصر
نكتب عليه أسامينا
وكان تلاقي القادمين من القاهرة، ثلاثي الأبنودي ورجب والصوت الدافئ محمد حمام مع الفرقة، تلاقي مصر جميعا مع أبناء السويس، اندمج الثلاثي وذابوا في شوارع المدينة وبين أبنائها الذين استمروا في المقاومة.
وكان الأبنودي مفتاح الأعمال التي قدّموها هناك، واستطاع الثلاثي أن يمزجوا الكلمات التي تنطق بها قلوب السوايسة بلسان الشاعر الشعبي الكابتن غزالي، مع كلمات الأبنودي وألحان أبراهيم رجب، وقدّموا بصوت محمد حمام 30 أغنية للإذاعة المصرية، منها (جدّف يا مراكبي) (والله لبكرة يطلع النهار يا خال) (يا شمس غيبي) (واللي يخاف من القول).
وقد أسهم رئيس الإذاعة حينئذ الإذاعي الكبير محمد عروق وهو من أبناء السويس، ومعه رئيس إذاعة صوت العرب الإذاعي أحمد سعيد، في دعم تجربة فرقة (أبناء الأرض) وثلاثي الأبنودي ورجب وحمام.
ويحكي محمد حمام أنه سجّل أغنية (بيوت السويس) في استوديو صوت العرب، وذهب مع رجب والأبنودي إلى منزله في حي باب اللوق، وخلال عشر دقائق هي وقت الذهاب إلى منزل الأبنودي، كانت مصر كلها تغني يا بيوت السويس.
استشهد والله وف إيدي أكفاني
فداكي وفِدا أهلي وبنياني
أموت ويا صاحبي قوم خد مكاني
دا بلدنا حالفة ما تعيش غير حرة
قدمت بيتي وسكيت دكاني
يا شطي وبحري وشبكي وسفينتي
يا بيوت السويس
كانت أغنية (بيوت السويس) هي الأشهر في المجموعة التي قدّموها هناك، والتي استمرت سنوات، رغم أنها لم تكن الأجمل ولا الأكثر تأثيرا من حيث الكلمات والألحان، ربما كانت الأكثر تلاقيا مع نبرة المقاومة، والصوت الذي يصرخ في القلوب برفض الهزيمة.
صوت آخر من القاهرة
عايش الأبنودي أبناء السويس معايشة كاملة، وكما كان نتاج معايشته في الصعيد ومع أبناء تونس العمل الكبير عن السيرة الهلالية، فقد أنجز الأبنودي في رحلته إلى السويس دواوين شعرية مهمة، منها “وجوه على الشط” الذي قدّم فيه نماذج من أبناء السويس الموجودين على أرض المدينة، وقدّم ديوانه الجميل “جوابات حراجي القط العامل في السد العالي إلى زوجته فاطنة (فاطمة)” الذي يحكي فيه يوميات عامل في السد العالي، وقد استلهم الديوان من أحد أبناء السويس هو إبراهيم أبو العيون.
وتجربة السويس أثّرت كثيرا في رفيقي الأبنودي إبراهيم رجب ومحمد حمام، وجعلت لكل منهما مسارا جديدا، ولم يكن ما قبل الخامس من يونيو مثل ما بعده لهما، فقد حاولا بعد النصر في أكتوبر/تشرين الأول 1973 أن يستمرا مع تجربة المقاومة، ولكنْ كان جديد قد حدث في السياسة، اختفى الثنائي ولم يظهرا إلا قليلا، سافر حمام إلى فرنسا وغاب صوته، وانزوى رجب في منزله إلا من بعض الأعمال الخفيفة.
بينما كانت رحلة الثلاثي إلى السويس شكلا من أشكال مقاومة الهزيمة، كان في القاهرة صوت آخر يشق سماءها بصرخة مختلفة ونبرة صوت عنيفة في النقد، وبكلمات أكثر عنفا في مواجهة الكارثة التي حلت بتعبير أحمد فؤاد نجم وألحان وغناء الشيخ إمام عيسى، الثنائي اللذين ظهرا عقب هزيمة يونيو واستمرا حتى ثورة يناير 2011، ويظل ما قدّماه في سنوات الستينيات الأخيرة صرخات قوية أقلقت السلطة والمسؤولين، بديلا لما يُقدَّم في الإذاعة وعلى شط القناة من حيث العنف في انتقاد المرحلة.
الحمد لله خبّطنا
تحت بطاطنا
يا محلا رجعة ضباطنا
من خط النار
يا أهل مصر المحمية
بالحرامية
الفول كتر والطعمية
والبَر عمار