الكلمة الصارخة بالوجع

كان ظهور الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى، في أعقاب هزيمة يونيو/حزيران 1967، في الساحة الغنائية والسياسية بمصر بمثابة تعبير قوي عن الزلزال الذي حدث صبيحة هذا اليوم وما تلاه، فقد استقبل نجم الهزيمة استقبال البسطاء، وحوَّل صدمته المؤلمة إلى طلقات من الكلمات الصارخة، وكانت تلك الأبيات الشعرية بوصفها أغاني شعبية تتلاقى مع جيل شعر بأن الهزيمة أفاقته من أحلام كبيرة كان يعيش فيها، خاصة بين الأوساط الثقافية اليسارية المصرية الذين كانوا ينتقدون التجربة الناصرية، ويحاولون الإشارة إلى غياب تعدد الأراء في الحكم، وكذلك ميلهم إلى تجربة أكثر ديمقراطية من جانب الحكم، وكان المجموعات اليسارية ترى في الديمقراطية طريقا أكثر اتساعا للوصول إلى نتائج أفضل، وللحقيقة فإن جمال عبد الناصر شعر بهذا بعد 1967، وظهر واضحا في توجهاته السياسية، ومحاولة نقل تجربة الحزب الواحد أو التنظيم الواحد إلى تعددية، وبدأت محاولات نقد عنيفة للتجربة من خلال مؤتمرات وبيان مارس/آذار 1968.
ح تقول لي سينا وما سينا شي
ما تدوشناشي
ما ستميت أوتوبيس ماشي
شاحنين أنفار
إيه يعني لما يموت مليون
أو كل الكون
العمر أصلًا مش مضمون
الشرائط السرّية والأغاني الممنوعة
انتشرت أغاني نجم/أمام كالنار في الهشيم تصرخ بين الشباب، وأصبح الثنائي محور الجلسات في الأوساط الثقافية والسياسية، وتلقف اليساريون الثنائي وضموهما إلى نقاشاتهم ومنتدياتهم السياسية، كان نجم يكتب والشيخ إمام يقوم بالتلحين والغناء، ويردد كل من يحيط بهما الأغنية التي سرعان ما تتحول إلى منشور سياسي عن طريق كتابة الأغنية وتوزيعها أوراقا بين طلبة الجامعات والتنظيمات السرّية، والتجمعات الشبابية، أو شرائط “كاسيت” تسجل هذه الأغاني من جلساتهم.
كان لا بد أن يصل الصوت إلى السياسيين والمسؤولين في النظام الناصري، فحاولوا استقطاب نجم وإمام عن طريق الإذاعة المصرية، فتمّت دعوتهما لتقديم الأغاني في برنامج تلفزيوني، لكن التجربة لم تستمر، لأن طبيعة الثنائي تختلف عن الأطر النظامية. أصبحت أغاني نجم/إمام هي صوت الاعتراض في كل مكان، وفي مظاهرات الطلبة الذين يطالبون بمحاسبة المتسبب في الهزيمة، وبعدها في مظاهرات فبراير/شباط 1968 التي اعترضت على أحكام الطيران، وكانت أصوات المتظاهرين تنطق بكلمات نجم وإمام، فكان لا بد من محاولات إسكات الصوت من قِبل الأجهزة الأمنية، وتم القبض عليهما.
إنتوا دود الأرض
والآفة المخيفة
إنتوا ذرة رمل
في عيون الخليفة
إنتوا كرباج المظالم والمآسي
إنتوا علّة ف جسم بلدي
إنتوا جيفة
لم تكن تلك هي الوسيلة المُثلى في التعامل مع الكلمة/الأغنية في أي وقت من الأوقات، فالكلمات لا تحدّها سجون ولا أسوار، والألحان كالأفكار تطير كل صباح مع طيور الحرّية، غاب مَن سجن كل المفكرين وأصحاب الأفكار واختفت أسماؤهم، وبقي في التاريخ السجناء بأفكارهم وإبداعاتهم، هكذا كان نجم وإمام مثل فؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي ومحمود أمين العالم وسيد قطب، و”كل اللي زار الزنزانة” كما يقول الأبنودي في قصيدته (ضحكة المساجين).
أغنيات عابرة للعصور
لم تتوقف أغنيات الثنائي ذات الكلمة العنيفة واللحن الهادر عند الهزيمة ولا العصر الناصري، فقد مات جمال عبد الناصر في عام 1970 وأحمد فؤاد نجم في المعتقل، زارته أمه في السجن، وكانت تبكي رحيل جمال عبد الناصر، سألها نجم: أنتي بتبكي على اللي سجن ابنك؟
ردت القروية بحس الفطرة والحضارة المصرية “اسكت يا عبيط. أبوك مات النهاردة”، هكذا كان عبد الناصر في وجدان الفطرة المصرية مهما كانت أخطاؤه وسلبيات حكمه (قد يعترض البعض لكني ما زلت أرى هذا وأؤمن به)، والغريب أن نجم رثى عبد الناصر بعد رحيله في قصيدة شهيرة بعنوان “زيارة إلى ضريح جمال عبد الناصر”.
فلاح قليل الحيا
إذا الكلاب سابت
ولا يطاطيش للعدا
مهما السهام صابت
عمل حاجات معجزة
وحاجات كتير خابت
غاب جمال عبد الناصر إذَن، وغابت معه الأفكار الحاكمة لمصر، وجاءت أفكار جديدة معادية لكل ما يمثله، ولكن نجم لم يغب عن الزنازين، كلما خرج من السجن عاد إليه مرة أخرى، وكالعادة كان الشيخ إمام رفيق رحلة. وجاءت حرب أكتوبر 1973، ليكتب قصيدة “دولا مين؟” ويغنيها إمام (دولا مين ودولا مين؟.. دولا عساكر مصريين.. دولا ولاد الفلاحين.. دولا الورد الحلو البلدي)، ولكن تغيرت الأمواج والمياه، وصار الغرب صديقا وحليفا، وبدأت العلاقات الجديدة تفرض نفسها بأفكار رأسمالية وأحلام تداعب الفقراء، فجاءت زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لمصر في إبريل/نيسان 1974، واستقبله نجم وإمام بقصيدة “شرّفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووترجيت”. لم يصمت نجم وإمام بالكلمات الصارخة والألحان الهادرة عن توجهات السادات ووعوده الاقتصادية بعام الرخاء كما عام الاستقرار، وكل الأحلام الموهومة، ووضعه أوراق قضايانا في أيدي أمريكا والغرب.
سخرية الثنائي من سياسات السادات وضيوفه كما في قصيدة “فاليري جيسكار ديستان” وقصيدة “الفول واللحمة”
ثم أضاف الدكتور محسن
إن اللحمة دي سم أكيد
بتزود أوجاع المعدة
وتعوّد على طولة الأيد
وتنيّم بني آدم أكتر
وتفرقع منه المواعيد
واللي بياكلوا اللحمة عمومًا
هيخشوا جهنم تأبيد
كانت مظاهرات يناير/كانون الثاني 1977 بعد قرارات رفع الدعم التي قررها السادات وانتشار أغاني نجم وإمام سببا في دخولهما السجن مرة أخرى، الواقع أنهما صارا ضيفين على سجون السادات قبل تلك المظاهرات وبعدها، فقد تعارضت أفكار السادات السياسية والاقتصادية مع قطاع عريض من المصريين، وبالتالي مع أفكار الثنائي.
استمرا هكذا طوال عصر مبارك الطويل، ورغم وفاة الشيخ إمام في عام 1995 فإن أغنياته وألحانه لم تختفِ منذ رحيله حتى الآن، وبرحيله فقدَ نجم ضلعا مهمّا في حياته، وإن استمر نجم كالعادة يطلق من مدفعه الكلمات التي تقلق الطغاة حتى بعد وفاته هو أيضا في 2013، وللإنصاف فقد كان رحيل نجم في ذلك العام رحمة كبيرة به.
لكن رغم الغياب فقد عاشت أغنيات نجم وإمام، سواء بغناء أجيال جديدة من الملحنين والمغنّين، أو بأصوات الشعوب العربية في كل مكان، أو مع النجوم الذين تغنوا بالكلمات، بعضها بألحان إمام نفسها وأخرى بألحان جديدة.
مع بداية الثمانينيات، ظهر جيل جديد للأغنية المصرية البديلة، وواصلت رحلتها حتى ثورة يناير 2011، وما زال قليلون منهم يحاولون أن يكونوا صوتا بديلا، وتلك قصة الجيل الذي عايشته.
دخلوا الخواجات.. شفطوا اللبنات
والبقرة تنادي.. وتقول يا ولادي
وولاد الشوم .. رايحين ف النوم
البقرة انقهرت .. ف القهر انصهرت
وقعت ف البير.. سألوا النواطير