أم كلثوم وثقافة نشر القبح

أم كلثوم

يُقال ناقل الكفر ليس بكافر، ونتفق ونضيف: المتحدث عن “القبح” لا ينشره، بل ينبه لمنع اعتياده ويطالب بالتعامل معه كتعاملنا مع رائحة “كريهة”، فنضع منديلًا على الأنف لمنع “نفاذها” إلينا ونتنبه بإبعاد المنديل بعد مغادرة القبح فلا نختنق بأيدينا ولا نحكي عنه أو نتذكره حتى لا نشم الرائحة “بلا” منديل..

تزايدت منذ سنوات ثقافة نشر القبح بأنواعه وأشكاله المتنوعة والكثيرة جدًا، وأصبحت “خطرًا” على كل عربي وعلى الوطن والأمة ولو بعد حين..

كانت أم كلثوم وستظل نموذجًا “متفردًا” لرفض القبح وعشق الرقي وصناعته، فمنذ صغرها رفضت الغناء المبتذل وأصرت على الغناء بعيدًا عن القطيع، وهذا من أول أسباب “النجاة” من القبح، فلا نردد ما يقوله البعض من دون “فلترة” كما يقول كثيرون عند رؤية سلوكيات سيئة من أطفال: هذا ما يفعله أبناء جيلهم، في محاولة لتبرئتهم “ولإعفاء” النفس من تحمّل مسؤولية تقويمهم، وكأن لو تناول الأطفال -من جيلهم- أغذية مسمومة سنسمح لأطفالنا بتناولها، وكعدم احترام الثقافة الوطنية والازدراء بها وترديد الألفاظ السيئة والسلوكيات التي لا تحترم الكبار من “السموم” التي يسمح الكثيرون لأولادهم وبناتهم بها وينشرون القبح.

 

الهجوم وليس الدفاع

 

من القبح المتزايد ما نراه في الفضائيات منذ أعوام من “بلطجة” وألفاظ سوقية وتمثيل رديء وتحريض على “تقبل” الخيانات بأنواعها ومؤخرًا تحطيم العلاقات الأسرية، ونماذج غير سوية..

البلطجي يعني المعتدي على الآخرين والبلطجة فأس، وناشرو القبح معتدون والقبح الذي ينشرونه هو الفأس، وواجبنا نحو أنفسنا وممن نحب ليس حماية أنفسنا من أذاهم فقط، فالفرق التي تدافع عن نفسها تخسر في الرياضة وفي الحياة أيضًا ودائمًا الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، “فلنفضحهم” وننشر الجمال بأنواعه ليزيل القبح، “ولنثابر” فسيستغرق الأمر وقتًا وجهدًا قد يطول، ولكن الجمال يستحق أليس كذلك؟

كانت أم كلثوم تعقد جلسات “مطولة” مع الشاعر والملحن للاتفاق على الكلمات واللحن النهائي لتثق بتحقيق أفضل ما يمكن من الجمال بكل التفاصيل، “وتنبهت” بعد صدور أسطوانة لها بأغنية بالفصحى لخطأ في نطقها لكلمة “واحدة” فأعادت التسجيل وتحملت التكلفة المادية، نتذكر ذلك مع “طوفان” الأغاني الكريهة صوتًا وكلمات وألحانًا ونوصي بالحزم ورفضها وكل أشكال القبح حتى لا نعتاده وقد ندافع عنه ولو بعد حين.

قبح وسخف

من القبح  “المستفحل” والمنتشر والمتغول بعض من يطلقون على أنفسهم لقب إعلاميات وإعلاميين والإعلام منهم براء، فوظيفة الإعلام الإخبار ونقل معلومات صادقة، ولا يعرفون الصدق ويصرخون في وجوه المشاهدين ويمنحون أنفسهم دون حق “الوصاية” على الناس بدءًا من الكذب السياسي ووصولًا “لسخف” إعطاء نصائح مقززة عن العلاقات بين الجنسين، فنرى مذيعة تصرخ بأنها تدافع عن بنات جنسها من الرجال، وأخرى “تتغزل” بابتذال بالرجال وتطالب النساء بأمور سخيفة، وكلاهما تعلمان جيدًا “قبح” ما تفعلانه، ولكنها التجارة والسعي وراء “الترند” على حساب إفساد حياة الناس، فالقبيح لا يهتم إلا بنشر قبحه ولو على “أشلاء” الآخرين.

اعترضت أم كلثوم على جملة “وضاع الحب ضاع بين عند قلبي وقلبك”، فسألها الشاعر عن السبب فقالت: إذا دخل العناد القلب فهذا ليس قلبي ولا قلبك، واقترحت أن تكون “وضاع الحب ضاع بين عند قلب وقلب”؛ فعندما يكون الفنان جميلًا يحسن نشر الجمال “ويفهمه” ولا يغني أبدًا للانتقام من زوج سابق ولا يردد كلمات سوقية سعيًا لانتشار “رخيص”. المؤلم أنهم ينشرون القبح ويجدون من يروجون لهم، ودورنا “منعهم” بمقاطعتهم ونشر الفن الجميل ما استطعنا.

قال الفنان والمذيع سمير صبري إن أصعب ما واجهه كمذيع عندما أجرى حوارًا مع “جاسوسة” مصرية عملت لحساب الصهاينة أنه لم يكن مسموحًا للمذيع قول كلمة أنت لأي ضيف، وكان شاقًا عليه مخاطبتها بـ”حضرتك”. نقارن ذلك بالقبح الصادر من مذيعين ومذيعات يلقون علينا بأطنان من النصائح بلغة “فوقية” ووقاحة غير مسبوقة في تاريخ الإعلام العربي، وينطبق عليهم المثل الشعبي: “يا فرعون ايه اللي فرعني فرد لم أجد من يردعني”، فلنردعهم ونستغل وسائل التواصل وكشفهم وفضح تناقضاتهم لتقليل “زحف” القبح بألوانه على العقول والقلوب ثم التعاملات.

من القبح المنتشر بضراوة من يزعمون أنهم خبراء تنمية بشرية ويقدمون نصائح “قبيحة” تحرض على إفساد العلاقات بالتركيز على أخطاء الآخرين وتناسي دورنا أحيانًا في صناعتها ولو بالتسرع بالثقة بهم أو تجاهل علامات سوء الاختيار، وبدلًا من مراجعة النفس نلقي بالاتهامات على الغير ونعيش دور “الضحية” وإيذاء النفس.

جسّدت أم كلثوم الدور الوطني للفنان بأجمل ما يكون، فساندت بلدها بعد هزيمة 67 وسافرت لبلدان كثيرة وغنّت لدعم المجهود الحربي، وكانت سفيرة “راقية” لبلدها وللعرب، وما نراه من قبح كثير من ممثلين ومطربين وإفشاء لأسرارهم الخاصة والحديث عن خياناتهم الزوجية أو تعرضهم لها.

نتفق مع قول الرائع “تشينوا أتشيبي”: “يجب أن يكون الفن إلى جانب الإنسانية، يجب أن يغني المطرب جيدًا حتى لو كان لنفسه فقط بدلًا من الرقص بشكل سيء للعالم كله”.

وقوله أيضًا: “يجب ألا يتذمر الرجل الذي يجلب شاذين مؤوبين بالنمل لكوخه عندما تزوره السحالي”، فلنطرد كل موبوء وقبيح من حياتنا أولًا بأول ونراقب جذور الجمال “ونمنع” انتزاعها ونضاعفها وننشرها دومًا.

طرحنا أم كلثوم مثالًا لإرادة رفض القبح فكانت فقيرة المنشأ ولم تتنكر لنشأتها واعتزت بنفسها وأنقذت نفسها من الفقر “النفسي” الذي يقود للقبح وأسست جمعية الوفاء والأمل لرعاية الفقراء “وانتزعتها” منها جيهان السادات، ورفضت أم كلثوم الغرور وهو من القبح المتزايد “بأشباه” المبدعين في المجالات كافة، فكانت تستعد لأي حفلة بإجراء العديد من “البروفات” لأغاني كثيرة لتختار منها ما يناسب الجمهور واحترمته فعاملها بالمثل.

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان