الإصلاح أفضل للعالم من الاستبدال

(1) العالم يغلي بسبب وفرة الإنتاج وشهوة الاستهلاك
“موجة حر هي الأعلى قياسًا على مدار تاريخ كوكبنا “هكذا تداولت وكالات الأنباء تعليق خبراء الأرصاد الجوية عن حالة الطقس الحالية في العديد من المدن الساحلية الأوربية حيث تجاوزت فيها الحرارة 40 درجة مئوية، وتصل إلى ما يقرب من 50 درجة مئوية في عدد من المدن الأمريكية والصينية. ماذا يحدث في العالم؟
العالم يغلي جراء التغيير المناخي الذي تسببنا فيه، بسبب الانبعاثات الكربونية جراء التصنيع والتوسع في تحفيز الناس على الاستهلاك ليكونوا سوقًا دائمة للمنتجات التي يتم تصنيعها بأعداد ضخمة لتقليل التكلفة وإغراق الأسواق ببضاعة رخيصة تجذب المشترين وتجعلهم يشترون الجديد لأنه أوفر من إصلاح القديم وأكثر حداثة ويواكب الموضة ويحفزون رغبة الناس في التقليد، هذا المفهوم يتحول إلى حبل يلتف حول عنقنا، وهو ما يحاول نشطاء البيئة لفت الأنظار إليه وإقناع المصنعين الكبار بالالتزام بمخرجات مؤتمرات المناخ السابقة وكذلك تنفيذ سياسات إعادة التدوير والإنتاج المستدام لتقليل النفايات وكذلك الانبعاثات، وكذلك تسعى بعض الحكومات لدعم هذا المفهوم بأفكار جديدة مثلما فعلت الحكومة الفرنسية الحالية مؤخرًا.
(2) عاصمة الموضة تدعم الملابس المستعملة
بداية من شهر أكتوبر القادم ستبدأ الحكومة الفرنسية في تطبيق مبادرة عنوانها: “مكافأة الإصلاح” أعلنت عنها وزيرة الدولة للتنوع البيئي بيرانجير كويار.
هذه المبادرة تهدف إلى تقليل كمية الملابس التي يتخلص منها الفرنسيون ويصل عددها إلى حوالي 700 ألف طن سنويًا، ينتهي مصير ثلثيها في صناديق القمامة. سيتمكن الفرنسيون من استرداد ما بين 6 إلى 25 يورو من تكلفة إصلاح الملابس والأحذية، هذه المبادرة سيتم تمويلها من صندوق بقيمة 154 مليون يورو خصصته الحكومة للسنوات الخمس المقبلة.
ودعت الوزيرة الفرنسية جميع ورش الخياطة وصانعي الأحذية للانضمام إلى هذا المشروع الذي يهدف إلى دعم الذين يجرون الإصلاحات لتقليل النفايات، وكذلك تشجيع ورش العمل وتجار التجزئة على تقديم خدمات الإصلاح بهدف خلق وظائف جديدة.
هذه المبادرة تشجع الفرنسيين على الإصلاح وإعادة استخدام الملابس والأحذية، وبذلك تقل كمية الملابس التي يشترونها. البعض يشكك في نتائج المبادرة لأن المستهلك يفضل شراء قطعة ملابس جديدة عصرية ومواكبة للموضة بسعر 5 يورو على إصلاح قطعة ملابس قديمة بسعر 10 يورو، لأن المستهلك لا يشغل باله بنتائج قراره على التغيير المناخي.
ثلثا الملابس المستعملة في الغرب تقريبًا تذهب إلى صناديق القمامة ومن المفترض أن يتم حرقها للتخلص منها، ولأن هذه الدول تخاف على مواطنيها من تلوث الهواء، تنقل هذه الملابس إلى البلدان الفقيرة وخاصة البلدان الإفريقية، ولأن الأذواق الأوربية لا تناسب أذواق مواطني هذه الدولة تحرق أطنانًا من الملابس المستعملة وأحيانًا يتم إلقاؤها في المجاري المائية أو المحيط مما يسبب تلوث الهواء والماء. المخاوف المتزايدة بشأن التهديد الوجودي بسبب تغير المناخ وتأثير التلوث والنفايات السامة وقطع الغابات واستنزاف موارد كوكب الأرض وتأثير ذلك في الناس يستدعي من الدول جميعها في التفكير بعدل وإنسانية لحل هذه المعضلة، فأهل الأرض جميعًا سيعانون من هذه الآثار وليس العالم الثالث فقط، والدليل كنا شهداء عليه خلال الموجة الحارة في الأيام القليلة الماضية.
(3) المطلوب تطبيق اقتصاد رجل الفضاء
كوكب الأرض في محنة حقيقية، فلقد تم استنزاف مواردها خلال أقل من ثلاثة قرون، بمعدل أكبر مما حدث منذ بدء التاريخ المدون للأمم الإنسانية، الانبعاث الحراري الناتج عن التصنيع واستخدام الوقود الأحفوري وتلوث البحار والمحيطات والأنهار بنفايات التصنيع وملايين الأطنان من المواد السامة المستهلكة في الحياة اليومية وانكماش مساحات الغابات بسبب جشع الإنسان كل ذلك يدمر التوازن البيئي ويؤدى بنا إلى كارثة لن ينجو منها أحد، وسيكون الوضع أشبه بأفلام هوليوود التي تتحدث عن نهاية العالم الذي نعرفه. الناس حول العالم لا يستهلكون بالقد نفسه، مواطنو الدول الكبرى الغنية يستهلكون أضعاف ما يستهلكه المواطن في دول العالم الثالث والدول الفقيرة، العالم لا بد أن يعيد التفكير في مفهوم الاستهلاك الذي تحول إلى ما يشبه إدمان تغذية آلة التصنيع الضخمة وأذرعها التسويقية والإعلانية. الدول الصناعية الثرية وكذلك الدول النامية والفقيرة بحاجة إلى تطبيق ما قاله عالم الاقتصاد الأمريكي الراحل كينيث بولدينج عن “اقتصاد رعاة البقر” و”اقتصاد رائد فضاء”، الأول هو إتاحة فرص لا نهاية لها لاستهلاك الموارد، والثاني هو اعتراف بأن كوكب الأرض يشبه إلى حد كبير سفينة فضائية نحتاج إلى إدارة مواردنا فيها بعناية ورشاد، العالم بحاجة إلى تطبيق اقتصاد رائد الفضاء وتشجيع الناس على استهلاك ما هو ضروري والبعد عن تكديس السلع التكميلية بهدف الامتلاك فقط. من المهم أن نربي النشء في المدارس منذ الصغر على مفهوم اقتصاد رجل الفضاء، وجعل حصص التدبير المنزلي جزء من المناهج الدراسية، ليتخرج الشباب من الجنسين وهم على علم بتصليح ملابسهم ورتق جواربهم وتصنيع منتجات منزلية مثل: المربى والحلويات والمعجنات وحفظ الخضروات والفاكهة… إلخ أولًا للتوفير نظرًا لارتفاع تكاليف المعيشة وأيضًا للتقليل من كمية النفايات الناتجة عن معلبات المنتجات الغذائية الجاهزة وكذلك التي تستخدم في “الدليفري”. علينا أن نستعيد مفهوم الإصلاح في علاقاتنا الإنسانية وكذلك في علاقتنا بالأشياء، وأن نستبدل مفهوم الإصلاح بديلًا عن الاستبدال الذي دمّر علاقاتنا الشخصية وكذلك علاقتنا بكوكب الأرض وجعلنا نعيش عصر السيولة التي وصفها من قبل عالم الاجتماع البولندي الأصل “زيجمونت باومان” في كتاباته.