كيف أنقذت الصحافة أمريكا من حرب فيتنام؟!

من أهم وظائف الصحافة أن تحذّر الشعوب من الأخطار وتكشف الحقائق عن الفساد والانحراف، وعن سوء استخدام السلطة الذي يمكن أن يؤدي إلى انهيار الدول، وعندما تقوم الصحافة بهذه الوظيفة فإنها تحمي الدول من السقوط.

لذلك أدرك الرئيس الأمريكي المثقف توماس جيفرسون أهمية حرية الصحافة لحماية الدولة الأمريكية، وأن الصحافة الحرة أهم لحياة الدولة من الحكومة، وهناك الكثير من الأحداث التي تبرهن على صحة رؤيته، ومن أهمها قضية “أوراق البنتاغون”.

خططت الحكومة الأمريكية لإدارة المعلومات التي تصل إلى الجمهور الأمريكي عن الحرب في فيتنام، فطورت إمكانياتها وقدراتها للتحكم في مراسلي وسائل الإعلام الذين بلغ عددهم 600 مراسل، فوفرت لهم إمكانيات الحياة المرفهة في سايجون بعيدا عن ميادين القتال، وقدمت لهم المعلومات التي تريد توصيلها إلى الجمهور، عن طريق إقامة مؤتمرات صحفية يومية يظهر فيها المتحدث باسم الجيش الأمريكي؛ ليقدم للمراسلين تقريرا عن سير العمليات يصور انتصارات الجيش الأمريكي وبطولاته.

الصحافة تتحمل المسؤولية!

بعد أن ظهرت الحقائق شعر الإعلاميون بأنهم شاركوا في خداع الجمهور الأمريكي، ودفعه إلى تأييد هذه الحرب؛ مما أثار مناقشة بين الصحفيين عن دورهم في هزيمة أمريكا بالاعتماد على المصادر الرسمية، وعدم البحث عن المعلومات الحقيقية، وعدم قدرتهم على فهم ثقافة الشعب الفيتنامي التي أهلته للمقاومة سنوات طويلة، وللصمود أمام قوة أمريكا الغاشمة.

وفي الوقت نفسه بدأ العسكريون يهاجمون وسائل الإعلام، ويتهمونها بأنها وفرت معلومات مفيدة للعدو، وأنها فشلت في تصوير إنجازاتهم.

وتزايد شعور الشعب الأمريكي بالضيق من العسكريين والصحفيين، حيث بدأ الجمهور يدرك أن الواقع يختلف عما تصوره له وسائل الإعلام، فهناك الكثير من التوابيت التي تعود من فيتنام وهي تحمل جثث الجنود القتلى، وبدأ الجمهور الأمريكي يتساءل: هل يملك بالفعل صحافة حرة؟!!

أوراق البنتاغون.. لماذا؟

لذلك قررت الصحافة الأمريكية أن تسترد كرامتها ووظيفتها في كشف الحقائق، والبحث عن المعلومات، فبدأت معركة “أوراق البنتاغون” بين الصحافة والإدارة الأمريكية، التي انتهت بانتصار الصحافة والشعب الأمريكي.

لكن ما أوراق البنتاغون التي دارت حولها المعركة، وأعادت للصحافة الأمريكية شعورها بالقوة والقدرة على القيام بوظائفها؟!

كان وزير الدفاع قد شكل عام 1969 لجنة جمعت علماء من تخصصات مختلفة لدراسة تطور الصراع في فيتنام والدور الأمريكي فيه، وسمح لهذه اللجنة بالحصول على الوثائق وتقارير القادة الميدانيين السرية، التي لا يمكن أن تصل إلى وسائل الإعلام فتمكنت هذه اللجنة من إنتاج دراسة بلغت ثلاثة آلاف صفحة، إضافة إلى ملاحق بلغ عدد صفحاتها أربعة آلاف صفحة.

وثائق على أعلى درجة من السرية

ولخطورة ما تضمنته هذه الدراسة من معلومات تم تصنيفها على أنها “سرية جدا” وكُتبت منها نسختان فقط، أُرسلت إحداهما إلى وزير الدفاع والأخرى إلى الرئيس.

وحتى الآن لم يعرف أحد كيف تم تسريب هذه الدراسة وملاحقها للصحافة بالرغم من توجيه اتهامات إلى كثير من الأشخاص.

عندما تمكنت النيويورك تايمز من الحصول على هذه الأوراق استشارت المحامين، فنصحوها بعدم النشر، لكن رئيس التحرير جمع هيئته التحريرية التي اتخذت قرارها بالنشر مهما كانت النتائج؛ لذلك بدأت الجريدة في نشر مقتطفات من هذه الأوراق في 13 يونيو/ حزيران 1971.

ثم بدأت الواشنطون بوست تنشر مقتطفات أخرى في 26 يونيو/ حزيران 1971؛ مما شكل حالة ارتباك للإدارة الأمريكية، فحاولت إقناع الصحف بعدم النشر، وقام النائب العام بدوره في التفاوض مع رئيس تحرير النيويورك تايمز الذي رفض وقف النشر، فاضطرت الإدارة الأمريكية إلى رفع قضية أمام المحكمة العليا.

القضاة ينتصرون لحرية الصحافة!

دفعت الحكومة بأن هذه الأوراق مصنفة على “أعلى درجة من السرية”، وأن نشرها يخدم العدو، ويعد من أعمال التجسس، وطالبت بوقف النشر.

ودفعت الصحافة بأن التعديل الأول للدستور الأمريكي يحمي حريتها في النشر بدون قيود، وأنه لا يجوز منعها من النشر، واستمرت الصحافة في النشر طوال فترة نظر القضية التي انتهت بإرساء مبدأ جديد هو أن من حق الإدارة أن تحافظ علي سرية وثائقها، لكن إذا حصلت الصحافة عليها فمن حقها أن تنشرها، ويعتبر منعها من النشر من أشكال الرقابة التي تتعارض مع الدستور الأمريكي.

شكّل الحكم انتصارا للصحافة فبدأت تنسق عملية النشر، فشاركت أكثر من 15 صحيفة في إنتاج الكثير من الموضوعات التي أوضحت للشعب الأمريكي: كيف كانت الإدارة تكذب عليه بشكل منتظم، وأنها كانت تكذب أيضا على الكونغرس الذي سارع إلى تشكيل لجان لتقصّي الحقائق؛ مما وفر للصحافة القدرة على تقديم تغطية للجلسات ساهمت في زيادة وعي الشعب الأمريكي.

شرعية السياسة الأمريكية محل شك!

أثار نشر الصحافة الأمريكية لأوراق البنتاغون مناقشة حول شرعية السياسة الأمريكية وأهدافها، وأوضحت هذه المناقشة انتهاك الجيش الأمريكي لحقوق الفيتناميين، واستخدام قوته الغاشمة ضدهم بشكل يتناقض مع مبادئ القانون الدولي، فتزايد وعي الجمهور الأمريكي بخطورة استمرار هذه الحرب التي أدت إلى تشويه صورة أمريكا، واقتناعه بأن بلاده يجب أن تعترف بالهزيمة أمام الفيتناميين، وتتفاوض معهم للانسحاب من فيتنام.

وكان من أهم نتائج نشر هذه الأوراق اعتراف الإدارة والشعب الأمريكي بعدم شرعية استخدام القوة الغاشمة في هذه الحرب التي تشكل عارا لأمريكا.

الصحافة تنتصر وتنقذ أمريكا

توضح هذه القضية أن الصحافة يمكن أن تستعيد دورها المجتمعي ووظائفها عندما تمتلك الشجاعة لتكشف الحقائق للجمهور، فالصحافة الأمريكية تمكنت من إنقاذ أمريكا عندما قادت الشعب الأمريكي إلى التظاهر، وإرغام الإدارة الأمريكية على الانسحاب.

وبذلك قدمت الصحافة الأمريكية درسا لكل الصحفيين يمكن أن تشكل دراسته بداية مرحلة جديدة من الكفاح لحماية حرية الصحافة وبناء مستقبلها، وأهم عناصر ذلك الدرس هو أن الصحافة الحرة تحمي الدول من الانهيار!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان