الكتابة عن تونس من مصر

بمناسبة 25 يوليو

قيس سعيد

بداية وبمناسبة مرور عامين على 25 يوليو/ تموز في تونس لابد من اعتراف، وهو أنني تجنبت وصف إجراءات الرئيس “قيس سعيد” بأنها “انقلاب” مع أنني شاهدت من القاهرة على شاشات التلفزيون إغلاق مقر البرلمان بقوة الجيش في وجه النواب. ربما تغلب عليّ لأسابيع حذر الصحفي إزاء الأحداث الكبرى، والخشية من التسرع والتورط في تبني وصف أو مصطلح تتضح لاحقا مجانبته الدقة، وخصوصا إذا كان عاش بتونس مراسلا صحفيا نحو عامين وتردد عليها مرارا بعد الثورة.

ومع هذا الحذر ثمة حرص على الاحتفاظ بعلاقات مع الأطراف والفرقاء من مصادر العمل الصحفي كافة، وألا يتجنى إبداء الرأي على فرص استقاء الأنباء. وربما وقعت أسير ترحيب عدد لا بأس به من الأصدقاء والشخصيات التونسية بما فعل الرئيس “قيس سعيّد”، على صفحات “التواصل الاجتماعي”، وبينهم “العاقل الوازن”. لكن يبدو هنا سبب آخر لهذا الحذر عندما أسترجع شريط ذكريات خبرتي مع النشر عن تونس بعد الثورة في الصحافة المصرية.

وما حدث هو أنني نشرت في اليوم التالي مباشرة، أي 26 يوليو 2021 بموقع إلكتروني في القاهرة تحت عناوين: “الأزمة في تونس.. من كان منكم بلا خطيئة؟: عن أسباب ما يجرى ومحدداته اليوم ومستقبلا”. وكنت قد بدأت النشر قبلها بنحو خمسة أشهر في هذا الموقع المعدود من “الصحافة المستقلة” النادرة بمصر بمقال ينبه إلى خمسة أخطاء مصرية شائعة عند تناول تونس الثورة وديمقراطيتها الناشئة. لكن الزميل رئيس التحرير نفسه، الذي نشر انتقادي للمعالجة الإعلامية الصحفية المصرية، أبلغني باستياء عند نشر المقال الأخير أنه يختلف معه شديد الاختلاف. وسرعان ما ملأ فضاء موقعه بسيل مما نبهت إليه من أخطاء.

وهكذا كأنه كان مطلوبا مني أن أكرر ما انتقدته في نفس وسيلة النشر، ويتقدمه خطأ أو خطيئة النظر إلى التحولات والصراعات الجارية المعقدة بتونس للانتقال إلى الديمقراطية من ثقب “حزب حركة النهضة”، مع وصمها بأنها بالتمام وطبق الأصل “إخوان مصر”، وتبنى الإطاحة بفرص الديمقراطية وهدم المعبد والوطن من أجل إقصائهم واستئصالهم.

وعلى أي حال كان هذا بالفعل هو آخر ما تفضل الزميل العزيز بنشره لي مشكورا. ورب ضارة نافعة، حيث تيقنت أن انتقاد قيادة “النهضة” لا يشفع ولا ينفع ما دمت تنتقد خصومها أيضا، وخصوصا وإذا كان هذا وذاك انحيازا للثورة والتغيير والحقوق والحريات والديمقراطية.

السؤال عن هاتف “عبير موسى”

عندي في الذاكرة ومما دونت عن خبرتي صحفيا ومتابعا لشؤون تونس وقائع عديدة كنت شاهدا عليها، تفيد برابطة “زواج كاثوليكي” بين الثورة المضادة واللامهنية في الصحافة المصرية. وهي وقائع تنوء بحملها وأوزارها وسخافاتها وسذاجتها إلى حد اختلاق معلومات أولية مضللة ومغلوطة؛ صفحات كتاب وافر الصفحات. وأظن الأمر أيضا داءً عضالا لم ينج منه الإعلام في دول عربية أخرى.

وعلى سبيل المثال، افتتحت القناة الفضائية “القاهرة الإخبارية” التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، بما لها من علاقات بأجهزة الدولة السيادية وإمكانات مالية وغير مالية، برامجها الحوارية حين انطلق بثها في الخريف الماضي مع “عبير موسى” رئيسة “الحزب الدستوري الحر”، المعروفة بأنها بين أبرز رموز نظام ما قبل الثورة التونسية. وليست المشكلة وحسب في أن القناة، التي ذهبت إليها في مقر حزبها، كالت لشخصها مديحا مبالغا فيه يخرج عن قواعد العمل الصحفي، أو وجهت أسئلة خلت تماما مما يبتعد عن المجاملات والدعاية. بل جاءت ثالثة الأثافي عندما جرى تقديم السيدة “عبير” بمعلومات خاطئة. فمن يجرؤ على القول إن حزبها حل ثانيا في الانتخابات التشريعية عام 2019؟ وهو الخامس بـ17 من إجمالي 217 مقعدا ليس إلا.

هذا الحوار بتلفزيون مصري يحظى برعاية رسمية رفيعة سخية جاء بعد 25 يوليو 2021 بنحو 17 شهرا. وهو ما يفيد استمرار الطلب على “عبير موسى”، وحتى بعدما تكفل الرئيس “سعيد” بتحقيق المطلوب والمراد. وعلى أي حال، فقد لمست بنفسي الطلب على السيدة “عبير” في صحافة القاهرة عندما اتصل بداية عام 2020 زميل شاب ليسأل عن هاتفها مكلفا من رئيس تحرير صحيفة مملوكة للدولة. ولا يخلو من دلالة أنها المرة الأولى والأخيرة التي يصادفني سؤال عن رقم هاتف لسياسي في تونس من صحفيين بالقاهرة على مدى سنوات.

جماعة “الإخوان الإرهابية” بتونس!

قبل أول زيارة لتونس بأيام، راجعت أرشيف صحيفة “الأهرام”، التي كنت أعمل بها. واندهشت للوهلة الأولى من أنها نشرت بين 25 يناير و20 سبتمبر 2011 ما مجموعه 14 معالجة خبرية فقط، وكلها من وكالات الأنباء الغربية، ومعظمها على مساحة عمود واحد. ولاحقا لكن سريعا، اتضح لي ما بدا بمثابة توجه عام، إلا من رحم ربي. ويتلخص في المراوحة بين ثبات طويل من التعتيم خشية انتقال عدوى التغيير إلى المصريين، أو حتى انتقال الحق في التعبير عن السخط وممارسته إليهم، وبين نوبات تشهير وإساءات ومبالغات وافتراءات وأكاذيب لتصوير تونس في فوضى، وعلى أعتاب انهيار وإفلاس.

وها أنا عشية حلول الذكرى السنوية الثانية لـ25 يوليو أعود لمراجعة الأرشيف الإلكتروني “للأهرام”، ومعه هذه المرة “المصري اليوم” و”اليوم السابع”، كعينة أظنها ممثلة للخط العام لصحافة القاهرة. وقد عثرت مجددا على حالة الثبات والتجاهل إزاء التطورات السياسية الداخلية بتونس أسابيع تطول، وإن عوضها في يوم 23 يوليو الجاري اهتمام لافت بحفل المطرب “أحمد سعد” بمهرجان “قرطاج”.

ولفت نظري نص واحد من تونس منشور في “بوابة الأهرام” و”اليوم السابع”، نقلا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية. ويحمل عنوان :”عامان على طرد (الإخوان).. ماذا يحمل 25 يوليو للتونسيين؟”. والحقيقة أن ما يفترض كونه تحقيقا أو تقريرا إخباريا جاء خاليا من أي مصادر متنوعة الاتجاهات تحدثت لكاتبه خصيصا، سواء كان مصرحا باسمها أو مجهولة. وبالطبع نحن أمام نص أحادي التوجه ولحساب السلطة بتونس. والمؤسف أيضا أن ينطوي على تحريض بالمزيد من الإجراءات ضد من وصفهم “بالمتآمرين على الدولة”، وكذا وصف حزب “النهضة” بأنه “جماعة الإخوان الإرهابية بتونس”. وهكذا من غير اكتراث ـولا أعرف هل من غير علم أيضا؟ـ بأن “النهضة” ما زال حزبا شرعيا وقانونيا في بلاده، أو بأن أشد خصومه بين مواطنيه لا يزعم بأن الحزب يقترن بجماعة، كما كان حال (حزب الحرية والعدالة/ جماعة الإخوان) في مصر بين 11 و2013.

*

وقبل أن أختتم أود إخبارك عزيزي القارئ آسفا بأن الموقع الصحفي الذي تكرم بنشر أخطاء معالجة الشؤون التونسية في مصر قبل أن يتورط في ممارستها بنفسه وبتوسع مع 25 يوليو 2021، لم يسلم بدوره من الأذى. فقد أصبح من بين المواقع المحجوبة داخل مصر اعتبارا من يونيو الماضي. وهكذا قبل أن يمر عامان على معالجته على هذا النحو لما جرى لتونس والتونسيين.

وبالطبع في كل الأحوال، لا عاصم للصحفي والصحافة إلا المهنية.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان