دعوة من الأجداد والتماثيل أشهاد

اللوفر

قبل أيام قلائل دعيت – شاكرة لمن دعاني- إلى محاضرة عظيمة نفيسة طيبة نضيجة، لشدّ ما أصابتني بالسرور والألم، والغبطة والسقم، والفرح والقرح، والهيبة والخيبة، عندما غصّت القاعة بهيبة قامات وسمو شخصيات لها ثقلها، وبصمتها ووزنها، برقة الموجودين ورفعتهم، زخارة وفخامة المحاضرة كانت ترياقا شاط بمشاعر الحاضرين وصدم أرتال أحاسيسهم المحاصرة بالانبهار والانذهال ومحاولة إخفاء الاندهاش والانفعال من خلال الصور والفيديوهات المعروضة، فبدا الحاضرون كأنّ على رؤوسهم الطير.

أقدم وأرقى حضارة

كانت محاضرة للموسيقار والمايسترو سلطان الخطيب والتي تم فيها استعراض حضارة ما بين النهرين، وهي بلا شك أقدم وأرقى حضارة متكاملة مكتشفة على وجه الخليقة، إذ نتحدث هنا عن نحو أربعة آلاف وخمسمئة عام، وبعد مشاهدة صور لقطع فنية نفيسة حبيسة جليسة متحف اللوفر، واستعراض نماذج لمنحوتات حجرية فخمة ضخمة بمدلولاتها وأبعادها الدقيقة ووقعها المحتوم بجلال الشكل وجوهر المضمون، وبهاء المعنى، ورخاء الإشارة الى المدنية والخدمية والعلمية والمديات الفكرية في كل مفاصل الحياة وتوظيفها لخدمة الموسيقى، لك أن تقف مزهوا أمام رقم طيني يتحدث عن ثلاث وعشرين آلة موسيقية وترية، لم يكتشف العصر الحديث نصف هذا العدد حتى الآن، وأسرار القيثارة السومرية وأبعادها الطولية والعرضية والارتفاعية المحسوبة بدقة فيزيائية كيميائية رياضية، ناهيك عن صندوقها الموسيقي الذي من خلاله تطورت وتبلورت فكرة إذكاء وإنشاء آلات أخرى مثل البيانو ومشتقاته.

وُثُوب اللوحات وتجلياتها كانت حاضرة عامرة في كل سكنة وحركة محسوسة وملموسة ومدروسة، توثق الرقيَّ الهائل والماثل في قسمات وملامح تلك النفائس والتماثيل والألواح، حيث ترى -مثلا- جوقة موسيقية تتكون من اثني عشر شخصا من الرجال والنساء، دلالة على المكانة التي كانت تحتلها المرأة في ذلك الوقت، يعزفون جميعهم مقطوعة محددة، وفي هذا دلالة على أن النساء والرجال كانوا يجيدون القراءة والكتابة آنذاك، في اللوحة ذاتها نجد ثلاثة أشخاص يضعون إصبعا على الوتر الأول وثلاثة آخرين يعزفون على الوتر الثاني وثلاثة آخرين يعزفون على الوتر الثالث يتخللهم عازفون على آلات هوائية، رُتبوا بطريقة مدروسة، مراعين التوزيع الصوتي، تلافيا للتكديس النغمي والتثبيط الصوتي في ظاهرة تناغمية هارمونية عالية، لا نرى مثيلاتها إلا في الأوركسترا العالمية الحديثة، فمن المعروف أن الصنف الواحد يعزف نوتة واحدة على وتر واحد فقط مهما كثر عدد هذه الآلات، إلا في الأوركسترا العالمية الحديثة.

ونجد أيضا أن المنحوتات الحجرية في كل العالم تعرض صورة عازف واحد بشكل منفرد، عدا حضارة وادي النيل التي واكبت حضارتنا وجارتْها، تظهر فيها لوحات لعازفين اثنين فقط كحد أقصى، إذ إن الجوقة الموسيقية تفردت بها حضارة وادي الرافدين فقط، والتي نرى ملامحها الآن في الأوركسترا العالمية.

ثلاث قطع

عملت المنحوتات الحجرية عمل أجهزة التصوير والفيديو لنقل وتوثيق وأرشفة ما كان يحدث ويُدار في تلك الأروقة المختبئة في العباءة الزمنية، وثائق شارك فيها نحاتون ورسامون ومهندسون، ومن ثم عمال لقطع وحمل الأحجار الخاصة بالنحت، والتي ربما كانت تنقل من أماكن أخرى، وطباخون يصنعون الطعام لهم، وعربات خاصة يجرها حصان، وهناك النجار والحداد الذي صنع العربة، والزرّاع الذي أنبت ما يطعم به الدواب ويُشبع بطون العمال وينزل بما تثمر الأرض إلى الأسواق، والبقال والخياط والسائس الذي يطعم الدواب والبغال بالعلف، مشاهد عبقرية توجز الإجادة مع الإفاضة والإفادة، تنقل إلينا صورة فيديوية بانورامية متكاملة لدولة مدنية عظيمة متحضرة، سخرت مقدراتها وطاقاتها وعقلياتها وعلومها وفنونها لخدمة الموسيقى وجعلها أساسا ومطلبا وغاية يعلو هامة كل الغايات.

تحدثت حتى الآن عن ثلاث قطع في متحف اللوفر، ثلاث قطع ليس أكثر، وللحديث بقية لا تخلو من شجون، اختصرتها خشية الإطالة، حيث ما انفك الغرب يجد ويجتهد ويشتغل برموز وطلاسم حضارة الأجداد؛ لكي يُصدِّرها ويبيعها لنا لاحقا.

في مفارقة مبكية مضحكة يكون فيها العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي كان ماضيه أفضل وأرقى من حاضره.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان