ليكن اتفاقنا حول المستقبل

جمال عبد الناصر

مر يوم الثالث والعشرين من يوليو هذا العام هادئا إلا من بعض المشاحنات القليلة بين من ينتسبون إلى الفكرة ورجلها جمال عبد الناصر ومن يخالفون في دوره، ويجدون في تجربته الكثير من السلبيات. ورغم أن اليوم يعتبر اليوم الوطني لمصر حسب الأمم المتحدة وحسب التاريخ فإنه مر بدون احتفالات رسمية أو شعبية. يعتريني أحيانا الحزن أننا لا نتفق على يوم وطني لبلد بحجم مصر، لكن الجديد هو مرور اليوم هادئا وهذا مؤشر جديد على أن المصريين قد بدؤوا في استيعاب درس أن التناحر على الماضي كان يجب أن يكون عملا من أجل المستقبل.

الدول الناهضة والباحثة عن الغد يهمها من التاريخ دروسه وليس خناقاته، عِبره وليس تشاحناته، فما من دولة في العالم إلا تتعدد وجهات النظر حول تاريخها وزعمائها، بل وأبطالها التاريخيين من أقدم الدول العريقة، وحتى الدول التي ليس لها تاريخ، فالأمم تعتز بتاريخها وتعيه، وتدرس جغرافيتها وحدودها لتعرف أين تقع على خريطة العالم، وما يحدها من مخاطر أو روابط بالأخر، وقد كان عبد الناصر ويوليو في اعتقادي أوعى لهذه الجغرافيا والتاريخ الطويل للأمة العربية. ونتجاوز تلك الإشكالية ونذهب إلى الجانب المضيء في مرور يوم ثورة يوليو بلا مشاحنات عنيفة.

نحو المستقبل

التاريخ يفتح الآفاق لكي نتعلم منه خطواتنا نحو المستقبل، إذن لندع التاريخ يرشدنا إلى معارك المستقبل، ويبدو أن الحاضر فرض نفسه على واقعنا، فتجاوزنا بعض المعارك التي لا طائل لها الآن في ظل أزمة طاحنة تمر بها مصر، تفرض علينا جميعا أن نرى التاريخ بعين مختلفة عن مجرد التناحر عليه، التاريخ كله من العصور الضاربة في الأزل، مرورا بتجارب الخلافة الإسلامية، والعصر الحديث من البداية الأولى في عصر محمد علي، حتى يوليو وعبد الناصر وتجربته، وما وصلنا إليه الآن.

علينا أن ننظر بتفكر كثير في دورس الماضي القريب، لنعرف كيف فرطنا في أحداث كبرى مثل ثورة يناير 2011، أو حتى الخروج الكبير للمصريين في يونيو 2013 وما أوصلنا إليه، تلك اللحظات التي كانت من الممكن أن تكون فاصلة وبداية جديدة لإرادة لهذه الأمة، فمصر كما أراها هي مفتاح التاريخ لجغرافيا الوطن العربي بثقافته وأديانه وتاريخه، وفي نهوضها تقدم ومساحة للأمة على كافة المجالات في جغرافيا العالم.

لا أميل إلى التكهنات المترددة حول انتظار الأقدار، بل إيماني أن الأقدار جزء من سعي الإنسان، علينا إذن أن نسعى للغد بتلك النظرية، لنضع وثيقة للمستقبل، نتجاوز الاختلافات قليلا، ولنأخذ معًا من التجارب ما يبني ولا يفرق، لا تناقض بين الأفكار في منبتها، إسلامية كانت أو عربية، قومية كانت أو وحدوية، لنتشارك معًا في صياغة جديدة تعبر بنا، وننفذها جميعا معا، بغض النظر عمن طرحها.

لا أقول لك اترك معتقداتك الفكرية، أو السياسية، أو الأيديولوجية، لا بل تعالوا لنجعل لنا بيئة تحضننا بعد قليل جميعا، وحين ننشئ هذه البيئة، نجعل من العلم والعدل والحق والخير قاعدة نبني بها أجيالا أكثر إيمانا بالوطن والأمة، ندرك جغرافيتها، وتاريخها، نعي أصدقاءها، وأعداءها، ما يفرضه علينا التاريخ وما تمليه الجغرافيا.

وثيقة المستقبل هي الأهم الآن فيما نمر به من أزمات، تلك الأزمات التي لا تخص قطرًا واحدًا من أقطار الأمة حتى ولو كان هو القلب، بل تعمّ أكثر الأطراف، تعالوا نضع قضية العدالة أمامنا ولتكن غاية كل المختلفين، ولو مؤقتا، فهل نستطيع أن نتوافق على إعادة بناء بنية العدالة الأساسية خلال مدة محددة، فيكون للعدالة استقلالها، وقدرتها على الوفاء بما يلزمها، فتضمن الحقوق الأساسية للمواطن، حقوق التعليم، والصحة، والثقافة، والمساواة في الفرص، والمساواة في الملكية، وحقوق العمل، والسكن، وحق التعبير. هل تجدون اختلافًا في تلك الحقوق بين من يسعون إلى المستقبل، هل تختلفون في حق المواطن في تعليم جيد، وعمل يتناسب مع مؤهلاته، وسكن يعيش فيه بآدمية، لا أظن أننا نختلف، إذن لتكن هذه نقاط توافق حول المستقبل، ونجعل من البيئة حاضنة وحافظة لتلك الحقوق، لا تخضع لمزاج حاكم أو رؤيته الخاصة.

نترك المواطن ليختار

وثيقة المستقبل قد لا يختلف فيها الجميع، ولكن كل منهم يحاول أن يحققها وفق معتقده الفكري، والإيديولوجي، فما رأيك أن نصنع تلك البيئة معًا ثم نترك المواطن ليختار من خلال فكره من يحكمه أيًّا كان، فما دامت البيئة صلحت، فلا داعي حينها لصراعات، بل سيذهب المواطن ليختار بكامل وعيه، ستقول لي المواطن هذا اختار في يناير، أو يقول غيرك إنه اختار في يونيو. من هنا لا بد لنا في البداية من أن نقر بأننا لم نوفر لهذا المواطن تلك البيئة التي بها يختار، فما كان لبيئة قديمة أن تفرز إلا قديما، في الحالتين كانت بيئة عتيقة أرى عمرها خمسين عاما، ويراها آخرون سبعين، ليس هذا محل الخلاف، المؤكد أن البيئة كانت نتاج تاريخ من القهر أو الفساد، بتعبير أخف توجهات ليست جيدة، أفرزت نتائجها على النحو الذي رأيناه جميعا.

علينا جميعا وفي ظرف نجمع على أنه الأكثر والأصعب على مصر أن نعترف بأننا تسرعنا في عمل خطوات لم يكن زمانها قد حل بعد، فلتتراجع أحلامنا الشخصية، أو الإيديولوجية قليلا، مجرد فترة قصيرة لنمهد الأرض للجميع يتنافس كيفما يشاء، لتكن مهمتنا الآن التوافق وليس الخلاف، توافق حول وثيقة للمستقبل تنقذ ما تبقى من مقدرات الوطن، وكما تركنا خلافنا في الأيام الماضية حول ثورة يوليو، وفرض الحاضر علينا ألا نتنازع حولها، أو حول قائدها، لنترك قليلا صراعنا السياسي ولنتفق حول وثيقة للمستقبل.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان