دراما الثورات.. المصدر واحد والنتيجة مختلفة

من فيلم "رد قلبي"

التاريخ يكتبه المنتصرون، حقيقة لا تقبل الشك، ليس فيما يتعلق بالمناهج الدراسية فقط، ولا في كتب التاريخ بشكل عام، ولا في الوثائق المزورة أو المستندات المزيفة.. ثبت بالدليل القاطع أن الدراما كانت أكثر فاعلية في التدليس على الناس وتزييف الأحداث، الأفلام والمسلسلات والأغاني الوطنية والأشعار والأزجال كانت وما زالت تتصدر اهتمامات الأنظمة الديكتاتورية قبل أي وسيلة أخرى، الآن دخلت ما تسمى “السوشيال ميديا” على الخط، أصبحت هناك الكتائب الإلكترونية التي يُنفق عليها الكثير، مهمتها الأولى ترويج الشائعات، اختراع الحكايات، التعتيم على الحقائق، باختصار: تغييب الرأي العام.

في الماضي أو في مرحلة الطفولة والصبا، كنا نشاهد أفلام السياسة والتاريخ والثورات والباشوات والضباط بشغف وطني بالغ، ظنًا أنها الحقيقة ولا شيء غيرها، الآن في ذكرى أحداث 23 يوليو 1952 في مصر، أي بعد أكثر من 70 عامًا، أصبحنا نراها بتندر، بسخرية، بانتقاد، ربما جاء اكتشافنا للحقيقة متأخرًا، إلا أن هناك من كانوا يمتلكون هذه الحقيقة مبكرًا، سجلها بعضهم في الكتب والمذكرات، إلا أن الدراما الرسمية كانت أعلى صوتًا، كانت أكثر أثرًا، دخلت البيوت كلها واجتاحت أدمغة الأعمار جميعها في غياب المنافس، أو حتى في غياب المؤرخ الأمين.

الضابط شكري سرحان:

في الماضي تعاطفنا جميعًا. مع الضابط علي (شكري سرحان)، ابن الريس عبد الواحد الجنايني (حسين رياض) في فيلم (رُد قلبي)، إنتاج 1957، أما في الحاضر فقد أصبحنا نسمع ونقرأ تعليقات كثيرة، تتعاطف في معظمها مع الأمير علاء (أحمد مظهر) شقيق الأميرة إنجي (مريم فخر الدين) في صراعه مع ابن الجنايني، بما يشير إلى تغيير فكري واجتماعي ونفسي وسياسي منقطع النظير، يؤكد ذلك التحول الحاصل في الشارع، تجاه هذه الفئة بشكل خاص، وهو تطور لو تعلمون خطير، جاء نتيجة تراكمات أحداث مؤلمة من جهة، ونتيجة اكتشاف أسرار كانت غائبة من جهة أخرى.

على غرار “رُد قلبي”، كانت هناك عشرات الأفلام والمسلسلات والكتب والأغاني، “مانشيتات” ومقالات الصحف، الأفلام الوثائقية والخطب النارية، الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب، الأهم من ذلك كان هناك الصوت الواحد، لا صوت يعلو فوق صوت الثورة، كان هناك السجون والمعتقلات، كان هناك التعذيب والإخفاء القسري، العسس في كل مكان، الجميع يتجسسون على الجميع، لا أمان داخل البيت الواحد، ما بالنا بمكان العمل، حُكم الفرد ولا أحد غيره، من هنا كانت الهزيمة النكراء، أطلقوا عليها النكسة، لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، استيقظ المغيبون على الواقع المرير، الكذبة الكبرى، هناك من مات بالسكتة، وهناك من انتحر، وهناك من اكتئب، وكثيرون هاجروا.

71 عامًا مضت على البداية، ظن البعض أن 2011 سوف تكون النهاية، في 2013 توهم البعض أنها نهاية النهاية، لم يتخيل أحد أن علي ابن الريس عبد الواحد الجنايني يقدّم نفسه بشكل جديد ليس أكثر، الجوهر واحد، الشعارات واحدة، الأداء المتواضع نفسه، لذا عاودت الدراما الظهور، ولكن بتكاليف خيالية هذه المرة، الأغنية أيضًا ولكن بأصوات رديئة، الكثير جدًا من تلاميذ أحمد سعيد “مذيع النكسة” ظهروا على الساحة، إلا أن الأداء أيضًا ضعيف بما لا يرقى إلى أهمية المرحلة، ربما لن تستطيع الصبر على مشاهدة أي إنتاج درامي من نتاج المرحلة، تليفزيوني، سينمائي، صحفي، وثائقي، غنائي، ذلك أن المشاهد هذه المرة كانت شاهدًا على الأحداث الحقيقية، بل كانت مشاركة بها في معظم الأحوال، لذا جاءت الانتقادات مبكرة، كما كان الاستنكار أكثر حدة.

هذه هي الحقيقة، دراما 1952 صمدت وقتًا طويلًا لأسباب عديدة، أهمها ارتفاع نسبة الأُمية في ذلك الوقت، انخفاض نسبة التعليم، غياب وسائل الإعلام الحُرة الداخلية والخارجية، إلا أن دراما 2013 لم تصمد منذ اللحظة الأولى أمام عمليات التوسع في مصادر الحصول على الأخبار، على الرغم من محاولات التغييب والتعتيم الكبيرة، التي أصبحت تستنزف جزءًا كبيرًا من الموازنات العامة للأنظمة الديكتاتورية بشكل عام، أفلام ومسلسلات وأغان وأشعار مصيرها المحتوم سلة المهملات، إلا أن السفه مستمر، رغم أن الأوضاع تزداد سوءًا على المستويات كلها.

نحن أمام قضية خطيرة، سوف تطرح نفسها مع كل مناسبة وطنية، تطرح نفسها مع عرض كل فيلم أو مسلسل أُنتج بهدف التزييف والتغييب، لسنا أمام إهدار أموال عامة فقط، لسنا أمام عملية إفساد كبيرة للعقل المجتمعي فقط، نحن أمام عملية ممنهجة تهدف إلى استمرار الحال على ما هو عليه، إعلام الصوت الواحد، مزيد من الجهل، مزيد من الخوف، مزيد من الديون، مزيد من التبعية، باختصار: مزيد من الفشل، ذلك أن عقلية الأمر والنهي لا يمكن أن تتحمل غير ذلك، لن تستوعب أبدًا ما هو بخلاف ذلك.

دراما الماضي

ربما كان الفارق الوحيد بين دراما يفصلها عن بعضها البعض نحو 70 عامًا، هو أن دراما الماضي كانت بوجوه مقبولة إلى حد كبير، وجوه موهوبة بالفطرة، حتى وإن كانوا قد عاشوا حالة التغييب المتكاملة الأركان، مما جعلهم يؤدون أدوارهم بإتقان، إلا أن أنصاف الممثلين في الحاضر لا يعنيهم الأمر من قريب أو بعيد، شغلهم الشاغل هو البحث عن عمل، البحث عن دور، هو ما يطلقون عليه أكل العيش، بعد أن أصبحت مفاتيح أكل العيش في يد جهة رسمية واحدة، تمنح وتمنع حسب الولاء للباشا المسؤول من عدمه، أو الرضا السامي من عدمه.

خلاصة القول: ما كان يصلح لخمسينيات وستينيات القرن الماضي، لم يعد يصلح أبدًا للألفية الثالثة، حتى وإن بدت الأوضاع متشابهة إلى حد كبير، الأحداث متماثلة والأشخاص متشابهون، إلا أن النتائج مختلفة تمامًا نتيجة تطورات العصر من الوجوه كلها، الآن لم يعد علي ابن الريس عبد الواحد مبهرًا للأميرة إنجي ولا لغيرها، كما لم يعد هناك من يقوم بأدوار البطولة من أمثال شكري سرحان ولا مريم فخر الدين، فقط أدوار “الكومبارس” فيما يبدو سوف تظل لا غنى عنها في الحاضر والماضي، يتكالب عليها الكثير من أتباع الماضي، من ثم لا غنى عنها في حياتنا العامة، في فعاليات 2023 وحتى فيما بعدها.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان