التطبيع الإجباري مع الأزمات!

لا مناص من التطبيع مع الأزمات في مصر، تغضب وترفض، ثم لا تجد سبيلًا غير التعامل مع الأزمة كما لو كانت أمرًا طبيعيًّا أو اعتياديًّا، تفعل ذلك مجبَرًا، مضطرًّا، تخضع بإرادتك أو بدونها، شئت أم أبيت فأنت تُطبّع مع وضع غير طبيعي ولا ينبغي أن يكون طبيعيًّا.
لماذا؟
لأن الأزمة يُفترض أن تكون طارئة، مؤقتة، وعندما لاتجد حلولًا جذرية حاسمة فإنها تستقر وتستوطن وتجد لها مساحة في حياة الناس فتصير جزءًا من هذه الحياة.
أزمات متزايدة
راجع السنوات العشر الأخيرة، ثم التي قبلها، ثم ما سبق هذين العقدين، وواصل العودة إلى الوراء، ستجد أن الأزمات من دون حلول، وستجدها تتزايد ونتعود عليها وتتعود علينا وتصبح جزءًا من روتين الحياة وبندًا في قائمة الانشغالات اليومية.
طبيعي أن تتعرض البلدان لأزمات، والواجب العمل على معالجتها وتبشير المجتمع بأن هناك تحركًا جادًّا لإزالتها والتخلص من جميع آثارها وضمان عدم عودتها مجددًا، هذا يحدث في العديد من البلدان، لكن في دول أخرى تجد الأزمات موطنًا لها وتكبر وتتعقد.
في النوع الأول من البلدان، فإن حكوماتها تجتهد في حل الأزمات إذا فُرضت عليها، وهي تواجهها قبل أن تكبر ويصير حلها مكلفًا ومقلقًا لمواطنيها، بل إنها تستشعر نشوء الأزمات وتتصدى لها وهي في مهدها، ولا تمنحها الفرصة للتسلل، ولا “تصهين عليها” حتى تصير مثل الأخطبوط له ألف ذراع بألف أزمة فرعية.
هذا النوع من الحكومات جاء إلى السلطة لخدمة الناس، وإزالة ما هو قائم من مشكلات، ومنع حدوث ما هو جديد، والانتقال بالحياة من مستوى عيش إلى مستوى آخر أفضل، مَسطرة النجاح لديها مرتبطة بدرجة رفاهية شعبها، والتباهي بتنفيذ إنجازات حقيقية لها صفة الاستمرار.
والدافع إلى كل هذا أنها حكومات منتخبة، جاءت بإرادة شعبية، قدّمت برامج جادة مدروسة تغري الناخب على التصويت لها، ومنذ يومها الأول فإنها تشرع في العمل حتى يشعر المواطن أن ثقته كانت في محلها، ويتيقن من لم يصوت لها أنه فاز أيضًا ولم يخسر شيئًا بخسارة رهانه الانتخابي.
في هذه الحكومات، قيمة المسؤول هى بقدر ما يقدّم من أفكار وخطط تنسف الأزمات وتحولها إلى فرص ونجاحات، وإلا لن يجد مبررًا للبقاء في منصبه.
نماذج للنجاح
نتذكر كيف أن ليز تراس اضطرت إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة البريطانية بعد 45 يومًا فقط من توليها المنصب، لأن خططها لمعالجة الأزمة الاقتصادية لم تجد قبولًا لدى حزبها والمعارضة والنخب والإعلام والشارع.
وقبل الشتاء الماضي، كانت ألمانيا ودول أوربية تواجه شح مصادر الطاقة، بعد غلق موسكو الصنابير على خلفية الموقف الأوربي من العدوان الروسي على أوكرانيا.
هذه الحكومات كانت أمام أزمة عاصفة، حيث الشتاء قارص ولا بد من ملء الخزانات بالغاز حتى لا يتأذى الناس من البرد، ولأجل الصناعة والحياة.
واجه المستشار الألماني الأزمة قبل أن تفرض سطوتها على شعبه، ونجحت تحركاته في توفير الكميات المطلوبة وتعويض الغاز الروسي، وهنا اطمئن الرجل بعد أن تغلب على الأزمة وطمأن مواطنيه.
وعلى خلفية الحرب الروسية الأوكرانية أيضًا، ارتفعت أسعار الطاقة عالميًّا، واضطرت واشنطن إلى السحب من المخزونات، لكن الرئيس الأمريكي لم يستند إلى حائط الأزمة ويتهرب من مسؤولية ارتفاع الأسعار على المواطنين، فقد خرج بايدن مرارًا يطمئن شعبه بأنها أزمة فرضتها الظروف، وسيعمل على حلها، ولم يمض وقت طويل حتى أعاد ما تم سحبه من مخزون، ووفر البنزين والسولار للأسواق وانخفضت الأسعار.
هكذا السلوك السياسي المسؤول والحكم الرشيد في الديمقراطيات، ورسوخ قيم المسؤولية والرقابة والمحاسبة، وهو ما يجعل الحكومات يقظة وتخدم الشعوب بتفان وإخلاص.
شعوب خارج حسابات الحكومات
أما النوع الثاني من البلدان التي تدهمها الأزمات أو تظهر مؤشرات على قرب حدوثها، لكنها تعجز عن التصدي لها أو تتجاهل بوادر وقوعها، ذلك أنها لا تشعر بالتهديد الشعبي عبر الانتخابات، ولا تشعر بالحرج السياسي أمام شعوبها لأنها خارج حساباتها، ولا هى الرقم المؤثر في بقائها أو انصرافها، والمعارضة غائبة أو مغيَّبة أو مفككة، والمجتمع مكبَّل، لهذا تتفاقم الأزمات، وحلولها تكون قاصرة، وهنا لا مفر أمام الناس إلا الصبر والتحمل مُرغمين.
مصر والأزمات
أحدث وأشد أزمة في مصر حاليًّا هي انقطاع الكهرباء، وهي بلا حلول حاسمة، الحل الحكومي تخفيف الأحمال، أي قطع التيار مرات في الليل والنهار، والمدهش أن رئيس الحكومة الذي كان قد أكد أن الانقطاعات ستنتهي منتصف الأسبوع الماضي، نسي وعده الرسمي وعاد وقال إنها مستمرة خلال شهر أغسطس/آب.
هذا استهتار بالعقل والناس، فهى الحكومة نفسها التي قالت قبل أشهر إنه لا مجال مرة أخرى لتخفيف الأحمال، فالشبكات تطورت، والمحطات الجديدة شُيدت، وتريليونات الأموال أُنفقت، والكهرباء فاضت ويتم التصدير، فماذا حدث حتى تقع أصعب أزمة في أشد صيف؟
إنه الغاز والوقود الذي يُشغّل المحطات، فهناك نقص في الإمدادات، مما يؤثر في قدرة محطات التوليد على العمل، وهنا نجد أنفسنا أمام الأزمة الأخرى المرافقة، وهي الغاز الطبيعي الذي قيل كثيرًا إننا حققنا الاكتفاء الذاتي منه ونُصدّر الفائض، ثم نكتشف أن هناك نقصًا في الإمدادات، وأن الصور البراقة لإنجازات الكهرباء والغاز ليست كذلك.
تطبيع شعبي مع الأزمات
مع وضوح الأزمة بدأ التطبيع الشعبي معها، عبر شراء مولدات للكهرباء مثل سوريا والعراق، ومن كان لديه مولّد قديم فإنه يقوم بإصلاحه، كما يتزايد الطلب على مصادر الإنارة القديمة، مثل الكشافات والشموع و”لمبات الجاز”.
هذا نموذج طازج للتطبيع مع أزمة الكهرباء، مثلما يتم التطبيع مع الغلاء الفاحش، ومع غيرها من أزمات كثيرة.
هكذا نتعايش مع الأزمات، ونقبلها ونصاحبها مُجبَرين، فلا بديل غير هذا مع غياب الرشد في الإدارة، والجمود في السياسة.