فرنسا.. إعدام نائل المرزوقي وثورة فتيان الضواحي الباريسية

انفجار مدوٍّ لبركان من الغضب العارم مصحوب بالعنف والحرق والتخريب، يجتاح مُدنًا وأحياءً فرنسية طوال الأيام الستة الماضية، احتجاجًا على إعدام الشاب المراهق نائل المرزوقي (17 سنة)، بدم بارد يوم الثلاثاء الماضي، مما أسفر عن تخريب ونهب مئات المتاجر، وحرق آلاف السيارات، واعتقال آلاف الفتيان. “الإعدام” جرى بيد “شرطي فرنسي” عنصري أرعن، يمتطي مع زميله دراجة بخارية، عند حاجز مروري؛ بأن أطلق النار على صدر الفتى الأعزل المنتمي لضاحية “نانتير” الباريسية الفقيرة، فأرداه قتيلا، في حين ما كان الشاب يقود سيارة مستأجرة رفقة اثنين من أصدقائه.

ساعات قليلة، وانتشر مقطع فيديو يسجل الواقعة، يُظهر دراجة الشرطيين ملاصقة لسيارة الفتى من اليسار، عندما قتله أحدهما من هذه المسافة القريبة جدا، دون مُبرر. وهو ما ينسف رواية الشرطة التي غسلت يديها من دم “المراهق”، زعمًا بأنه قاد السيارة في اتجاه الدراجة البخارية، ولم يمتثل لأمر الوقوف.

العام الحالي وحده، شهد ثلاثة قتلى بأيدى الشرطة الفرنسية، كما قُتل 13 آخرين ينتمون إلى ضواحي باريس الفقيرة، العام الماضي بطريقة مشابهة، وفي كل مرة يُفلت الشرطي المتهم بالقتل من العقاب، ويُدان القتيل.

التهميش.. وانفلات الشرطة مع أبناء الضواحي الباريسية الفقيرة

لماذا إذن يظل كل هذا “الانفلات الشُّرطي” في فرنسا اتجاه أبناء الضواحي الباريسية المُهمشة، استخفافًا بحياتهم، وما يُثيره من غضب واحتجاج من آن لآخر، دون إصلاح أو علاج؟ فقد عاشت البلاد 17 يوما من الاضطرابات الساخنة عام 2005م. وقتها تم إعلان حالة الطوارئ ثلاثة أشهر، على خلفية تسبب الشرطة في مقتل شابين صعقتهما الكهرباء، عندما اختبآ في محطة لتوليد الطاقة، هربًا من الشرطة التي كانت تطاردهما، دون جريرة، سوى انتمائهم لضاحية باريسية فقيرة أيضا، ومُهمشة.

ألا تُنافى هذه الممارسات الشُّرطية مع أبناء الضواحي الباريسية الفقيرة، فكرة دولة القانون والحرية والمساواة وقبول الآخر؟ هل انحرفت جمهورية فرنسا إلى “العنصرية”، والتمييز الاجتماعي والطبقي، تناقضًا مع مبادئ الثورة الفرنسية (1789- 1799م)، المُهتدية بأفكار الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712- 1778م)، في كتابه “العقد الاجتماعي”، الذي أسس لمسؤوليات وواجبات الحُكام والمحكومين، في “نظام سياسي” يتسع لكافة الأطياف والملل والمكونات، بديلا عن الحكم الديني الساري قبل عصر النهضة؟

عرقيات متعددة وإمكانية التناحر والحرب الأهلية.. ومركزية التعليم

قراءة المشهد الفرنسي الحالي، تستلزم الإحاطة، بأن البلاد يسكنها قرابة 67 مليون مواطن، وتتكون من 22 إقليما، تتبعها 92 مقاطعة، وأربع مقاطعات أخرى خارج الحدود. تحتضن فرنسا عرقيات (المفرد “عرق”، وهو جماعة بشرية تشترك في صفات بدنية ووراثية واجتماعية)، من أصول رومانية، وجرمانية، ولاتينة، ومغاربية (الفتى القتيل مُسلم من أصل جزائري)، وغيرها من العرقيات.

تختلف ديانات السكان، فنحو 85% منهم مسيحيون (83% كاثوليك و2% بروتستانت)، ونحو 10% مسلمون، و1% يهود، و4% بلا ديانة معروفة. أدرك التربويين الفرنسيون الأوائل أن هذا “التعدد العرقي” يمكن أن يسبب تناحرا وحروبا أهلية.. ومن ثم فلابد من نظام تعليمي مدني موحد، ومجاني تماما دون تمييز، مركزيّ في إدارته، تنفق عليه الدولة، كي تضمن تربية النشء، على قيم الجمهورية الفرنسية، وفقا لقاعدة “من يدفع يملك سلطة اتخاذ القرار”، وهو ما أخذت به فرنسا، لحماية النسيج الاجتماعي.

جدار عنصري عازل.. فقر وبطالة وفرص محدودة للعمل والترقي الاجتماعي

هذا “النهج التعليمي” وحده، لم يمنع تسرب فتيان وفتيات ضواحي وأحياء باريس الفقيرة، من التعليم لصعوبة ظروفهم المعيشية. كما لم يعُد كافيا في العقود الأخيرة، مع تزايد الإهمال والتهميش لهذه المناطق الباريسية ذات الكثافة السكانية العالية (خمسة ملايين نسمة تقريبا، آباؤهم أو أجدادهم فرنسيون)، التي ينحدر سكانها من بلدان إفريقية وعربية وإسلامية، منها ما كان محتلا من فرنسا الاستعمارية، على عكس جمال وإبهار باريس، التي يسكنها أقل من ثلاثة ملايين نسمة، فالضواحي الفقيرة شوارعها ضيقة ومزدحمة، يغلب عليها الفقر والبطالة، مع بعض العنف والمخدرات.

إنها مناطق مًهملة، مُهَمشة، مُحاطة بجدار نفسي عنصري سميك، عازل لسكانها عن الاندماج في المجتمع الفرنسي، فلا يُقبل ابناؤها بأجهزة الشرطة، وفرص العمل والترقي الاجتماعي المتاحة لهم محدودة، لنقص التعليم، والتدريب والخبرة، والانتماء السكني. وهم إجمالا يعانون تمييزا اجتماعيا صارخا، وعنصرية مقيتة، ونظرة دونية، وتعاملا خشنا من الشرطة رغم جنسيتهم الفرنسية.

حماقة ماكرون ورعونة الشرطة.. وغلبة الفتيان في الاحتجاجات

عوامل الفقر والبطالة والتهميش والعُزلة، ورعونة الشرطة وكأنها في دولة من العالم الثالث.. كان لابد لها أن تُراكم الغضب في نفوس مواطني هذه المناطق الباريسية، بغض النظر عن دياناتهم. ثم أتت عملية إعدام الفتى الصغير نائل المرزوقي الذي كان يعمل في توصيل طلبات البيتزا إلى جانب الدراسة، لتكون بمثابة الشرارة التي فجرت بركان الغضب. هذا مع صعود اليمين المتطرف، وإيقاظه للنعرات العنصرية، ومجاهرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بكراهيته للإسلام، حماقةً منه وافتقادًا للحنكة السياسية.

بدوره ساهم كل من الخطاب المتعجرف لوزيري الداخلية والعدل الفرنسيين، في وصفهما للمتظاهرين بأنهم لصوص، وتهديد الأخير لسكان الضواحي المهمشة، والتقليل من شأنهم، وعنصرية الإعلام، في استضافته لمحللين وساسة بعضهم ابتعد عن الموضوعية، تحيزًا واستكبارًا. اللافت، غلبة الفتيان في سن المراهقة على المشاركين في هذه الاحتجاجات، طوال الأيام السبعة الماضية، فلماذا؟

فيديو قتل الشرطي للفتى، أشعل نيران الغضب الكامن في نفوس فتيان الضواحي الفقيرة، فأهاج عواطفهم الجياشة والمرهفة، ونفوسهم المشحونة إحباطًا وحنقًا، وتوحدوا وجدانيًّا مع قرينهم “المرزوقي”. استشعر كل منهم أن ما حدث للقتيل، يمكن تكراره معه، فاندفعوا ثائرين، رفضًا للظلم والقهر والتهميش، والعزلة المفروضة عليهم، وهو ما أربك السلطات الفرنسية.

على الحكومة الفرنسية قراءة رسائل ثورة فتيان الضواحي الباريسية الغاضبين، والتعاطي مع أسباب الانفجار، وإلا فالقادم أسوأ.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان