والزعماء أيضا لا يعرفون كل شيء

الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون والروسي فلاديمير بوتين

 

(1) حتى أنت يا بريغوجين!!

حتى هذه اللحظة لا يعرف أحد على وجه الدقة تفاصيل تمرد قائد فاغنر وقواته ومن هم حلفاؤه في الجيش الروسي. يبدو “بريغوجين” للوهلة الأولى أشبه ببطل من أبطال أفلام الأكشن الهوليوودية، فهو من نوعية رامبو المقاتل الشرس القادر على القتال دون كلل أو ملل، لا تصيبه إلا جراح سطحية ولا ينجح أحد في القضاء عليه، بل يترك عشرات القتلى وراءه.

يا ترى كيف سيتعامل القيصر مستقبلا مع بريغوجين؟ الذي وجه إليه طعنة في الظهر، تذكرنا بطعنة بروتس الأمامية لصديقه يوليوس قيصر. بوتين العميل المخابراتي السابق ذو الوجه البارد الذي لا يستطيع أحد قراءته ولا معرفة ما يدور في خلده، فشل في قراءة ما يدور في عقل طباخه السابق الذي صنعه على عينه وراقب صعوده وتمدد نفوذه وتراكم ثروته وهو موقن تماما بأنه سيظل إلى الأبد الكلب الوفي الذي لن يعقر يوما يد سيده التي امتدت له بالطعام الوفير. لكن فجأة يكتشف أنه كان مخدوعا مثل أي مواطن روسي عادي لا يتمتع بأي نفوذ أو سلطة أو معلومات استخباراتية.

البقاء في الحكم سنوات طويلة يجعل الحاكم يظن أنه يعرف كل شيء يدور في بلاده وأن كل شيء تحت السيطرة، وهو نفس الفخ الذي وقع فيه الرئيس الروماني السابق تشاوشيسكو، الذي كان ممتلئا بالثقة، قبل إعدامه في 25 ديسمبر عام 1989 بأسبوع، حينما قال بزهو إن بلاده بعيدة تماما عن الاضطرابات والمظاهرات التي اندلعت في عدد من دول أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين وإعلان غورباتشوف لبرنامجه الإصلاحي.

الإنكار هو ما يشعر به الزعيم المستبد الذي طال بقاؤه في الحكم، وحين يفاجَأ بواقع لم يخطر يوما على باله، ينفيه تماما وكأنه بذلك يمحوه ويسقطه في العدم، وهو نفس موقف الزعيم الليبي معمر القذافي حين واجه معارضيه بعبارته الشهيرة: من أنتم؟ وكأنه بذلك ينكر وجودهم الواقعي.

ولعل بوتين قد نطق جملة العقيد القذافي سرًّا حين علم بتمرد فاغنر، ولا أعتقد أن مصير بوتين سيكون نفس مصير تشاوشيسكو والقذافي، لكنه بالتأكيد سيظل فترة طويلة شاعرا بفقدان السيطرة، وهو شعور مرّ المذاق على أيّ حاكم خاصة إذا  كان مثل شخصية بوتين.

(2) ماكرون والفيديو جيم

ماذا يحدث في بلادي؟ أظن أن هذا ما دار في عقل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد أن تابع أعمال العنف والشغب في باريس على أثر مقتل الشاب نائل المرزوقي (17 سنة) وهو فرنسي من أصول جزائرية على يد شرطي بعد توقيفه مروريا، وأدى ذلك إلى قطع زيارته إلى بروكسل التي ذهب إليها لحضور قمة الاتحاد الأوروبي. الرئيس الفرنسي لا يرى سوى أعمال الشغب لكنه يتجاهل سكان الضواحي ومعظمهم من المهاجرين الذين يشعرون بالتهميش وعنف الشرطة معهم وكذلك الفرص المحدودة أمامهم في العمل وتدني مستوى التعليم والمعيشة لديهم. الشارع الفرنسي بصفة عامة لديه مشاعر غضب كامنة تعبر عن نفسها كل فترة، أولها مظاهرات السترات الصفراء عام 2018 ثم المظاهرات ضد قانون التقاعد، وأخيرا هذه المظاهرات التي اندلعت بعد مقتل “نائل”.

فئات كثيرة في المجتمع الفرنسي تشعر بالتهميش من جانب حكومة ماكرون التي تحاول أن تفرض سياستها التي تضر بمصالحهم وأسلوب حياتهم ويشعرون حيالها بغياب العدالة والمساواة، ويريدون أن تنتبه حكومتهم إلى معانتهم بالتظاهر السلمي، وغالبا ما يندس بينهم المخربون واللصوص.

ماكرون الذي نجح في اقتناص ولاية ثانية لأنه كان البديل الوحيد لليمين المتطرف، لا يخطر بباله أنه ربما كان على خطأ، وأن سياساته النيو ليبرالية لا تتوافق مع طبيعة ومزاج الشعب الفرنسي الذي نشأ على مبادئ ثورته: الحرية، والمساواة والإخاء.

كثير من المواطنين الفرنسيين الآن يشعرون بأن هذه المبادئ يتم استبدالها لغير صالحهم، وكان على الرئيس الفرنسي مواجة الواقع بحكمة ومرونة ودهاء رجل السياسة بدلا من التنظير والنظرة الفوقية التي يتعامل بها مع عامة الفرنسيين، والتوقف عن حساب الأمور بعقلية رجل البنوك.

المدهش أن ماكرون برر ما حدث في بلاده باستعارة أقوال زعماء العالم الثالث من المستبدين والمكروهين من شعوبهم الذين يروجون أن أي معارضة لهم نتيجة مؤامرات، فقد قال ماكرون إن المؤامرة سببها مواقع التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو المسمومة!!! فهو يرى أن ما حدث من شغب كان نتاج دعوات إلى العنف تروج على منصات التواصل الاجتماعي، كما وصف العنف بين الشباب والقصر بأنه نوع من الانفصال عن الواقع وأنهم يطبقون ألعاب الفيديو العنيفة التي تسمموا بها في الشارع.

بعد ست سنوات في الحكم، يواجه ماكرون عاصفة عاتية للمرة الثالثة، تؤكد أن سيد الإليزيه تنقصه معرفة الكثير عن طوائف شعبه المختلفة وردود أفعالهم. من يحكم شعبا وخاصة في ظل ظروف اقتصادية صعبة واستثنائية، مثل تداعيات الحرب الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، لا بد أن يتابع أحوال الناس ليخفف عنهم ويشعرهم بأنه معهم ومنهم ولا يتعالى عليهم.

القادة في كافة أنحاء العالم، يعرفون الكثير، بطبيعة عملهم، ولكن ليس كل شيء، ثقتهم الكبيرة في مصادرهم المعلوماتية والاستخباراتية وسلطتهم الواسعة ونفوذهم القوي، قد يعميهم عن رؤية تفاصيل صغيرة ومتابعة تغيرات طفيفة قد تكون فيها نهايتهم السياسية.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان