كيف تساهم حرية الصحافة في بناء مجتمع المعرفة؟!

“المعرفة ثروة ” عبارة مختصرة جاءت في التقرير الذي قدمته لجنة ماكبرايد لليونسكو عن أوضاع الإعلام العالمي عام 1980، لكن هذه العبارة دفعتني إلى تحديد أهدافي العلمية؛ فأطلقت خيالي لأبحث عن العوامل التي تشكل قوة الأمم.

هناك الكثير من الدول التي تمتلك ثروات طبيعية وبشرية. فلماذا لم تحسن إدارتها، وتستثمرها في بناء اقتصاد قوي؟!! ولماذا ظلت فقيرة في حين تنهب أوربا وأمريكا هذه الثروات؛ لتحولها إلى منتجات تعيد تصديرها بأسعار مرتفعة، فتحقق الثراء على حساب الشعوب الضعيفة؟!!

من المؤكد أن هناك علاقة قوية بين المعرفة والقوة الاقتصادية، فالشعوب التي تحصل على المعرفة تتمكن من تحقيق التغيير، وتمتلك الوعي والإرادة والقدرة على تحقيق الاستقلال؛ لذلك يحرص الطغاة في كل العصور على منع وصول المعرفة إلى الناس، واضطهاد قادة المعرفة.

ودراسة التاريخ الحديث توضح كيف عملت القوى الاستعمارية لتضليل الشعوب وتجهيلها، حتى تخضع لشروط الواقع الدولي، ولا تكافح لفرض إرادتها، واستثمار ثرواتها.

الصحافة وسيلة لنشر المعرفة

والصحافة من أهم الوسائل الحديثة لنشر المعرفة؛ لذلك عملت القوى الاستعمارية لمنع الشعوب الضعيفة من استخدام الصحافة لنشر الوعي، وتعريف الشعوب بأنها تستطيع أن تحقق الاستقلال والتقدم.

فالشعب الذي يدرك هويته، ويمتلك الثقة في نفسه، ويقرأ تجاربه التاريخية بعمق، لا يستطيع الاستعمار والطغيان التحكم فيه.

لذلك كان حرمان الشعب من حقه في معرفة ذاته وهويته، وتغييب وعيه بمصادر قوته الثقافية والحضارية، من أهم وسائل إخضاع الجماهير.

ولذلك كانت المعركة تدور طوال القرنين الماضيين حول حرية الصحافة لأن وظيفة الصحافة الحرة هي توفير المعرفة للناس، وكلما تزايدت معرفة الشعوب اشتد بأسها، وشحذت همتها لتنتزع حريتها واستقلالها، وتطلعت لاستثمار ثرواتها.

والصحافة الحرة هي التي توفر للشعب المعرفة عن الهوية وأسس الكفاح لتحقيق الاستقلال، وبناء المستقبل.

كيف نبني مجتمع المعرفة؟!

من أهم التحديات التي فرضها القرن الـ21 على كل الدول، أن عوامل بناء القوة الاقتصادية تتغير بسرعة، والجميع يدرك أن اقتصاد المستقبل يقوم على المعرفة، والدولة التي تريد أن تبني اقتصادا قويا يجب أن تفتح المجال أمام شعوبها لتتبادل المعرفة، وبقدر نجاح الأفراد في إنتاج المعرفة وتوزيعها تتزايد فرص بناء القوة الاقتصادية.

ومجتمع المعرفة يقوم على عملية مستمرة لإنتاج الأفكار، وتشجيع الناس على الابتكار، ففكرة واحدة يمكن أن تفتح المجال لإنتاج سلع جديدة، أو تطوير هذه السلع.

لكن المجتمعات المعرفية تحتاج إلى قيادات تمتلك خيالا حضاريا، وتؤمن بقدرة شعوبها على تحقيق أهداف طويلة المدى، وتغيير الواقع.

لكن كيف يمكن أن تصل هذه القيادات إلى الجمهور إن لم تكن هناك صحافة حرة تناقش أفكارهم ومشروعاتهم الحضارية؟!

هناك علاقة قوية بين حرية الصحافة والقيادة القائمة على المعرفة، فالوظيفة الرئيسية للصحافة الحرة هي الوفاء بحق جمهورها في المعرفة، لذلك تحتاج إلى القيادات التي تمتلك مشروعات حضارية لأنها توفر لها مضمونا جذابا للجمهور، وتقدم أفكارا جديدة تدور حولها المناقشات.

لذلك تزدهر الصحافة وتتزايد حاجة الناس إليها عندما تقدم للشعب هذه القيادات التي تكافح لتغيير الواقع بمشروعات حضارية جديدة.

أزمة الصحافة وغياب قيادات المعرفة

دراسة أزمة الصحافة المطبوعة توضح أن غياب القيادة القائمة على المعرفة من أهم أسباب هذه الأزمة؛ ذلك لأن الصحافة لم تستطع أن تقدم مضمونا يجذب الجماهير، فليس هناك مشروعات حضارية يتم النقاش حولها، وتدور المعارك الفكرية والثقافية بين الذين يدافعون عنها والذين يرفضونها.

هل يعني ذلك عدم وجود القيادات التي تحمل هذه المشروعات، أم أن الصحافة الخاضعة للسلطة لا تستطيع نشر أفكارهم؟!

إن تحكم السلطة في الصحافة منعها من نشر الأفكار الجديدة، وأدى إلى غياب قادة المعرفة عن الجماهير في الوقت الذي تتزايد فيه حاجة الدول إلى منتجي الأفكار والمبتكرين والعلماء الذين يمكن أن يقودوا تغيير الواقع، وشحذ إرادة الشعب لبناء مجتمعات معرفية تقوم على التفاعل بين صحافة حرة وقادة المعرفة.

حضارتنا غنية بالمعرفة.. ولكن!

لكي نبني المستقبل يجب أن نعي أهمية استثمار الثراء الفكري والمعرفي للأمة الإسلامية، وإدارة هذه المعرفة واستثمارها.. لكن الأمة تحتاج إلى صحافة حرة توفر هذه المعرفة للجماهير، وتفتح المجال لقادة المعرفة لتشجيع الشباب على الابتكار والبحث العلمي وإنتاج الأفكار الجديدة لزيادة القيمة المضافة إلى ثرواتنا الطبيعية.

لذلك فإن بناء الاقتصاد القائم على المعرفة يحتاج إلى أن نبحث عن حلول جديدة لأزمة الصحافة المطبوعة، وأهم تلك الحلول تحرير الصحافة العربية من التبعية للسلطات وللغرب، لتقوم بدورها في توفير المعرفة التي تدفع الشعوب إلى الكفاح لتحقيق الاستقلال الشامل والديمقراطية.

هناك الكثير جدا من الأفكار التي يمكن أن تشكل النهضة وتبني المستقبل، لكن لم تكن هناك صحافة حرة تنقل إلى الشعوب هذه الأفكار، فمات أصحابها بحسرتهم، وأصابهم الاكتئاب، أو أُجبروا قهرًا على الهجرة من أوطانهم، أو سُجنوا حتى نهشت الأمراض أجسادهم، أو قُتلوا بأيدي أجهزة مخابرات أجنبية، ولم تستطع الصحافة أن تتحدث عنهم.

لذلك تشكل حرية الصحافة مقدمة ضرورية لبناء مجتمعات معرفية، يتم فيه إطلاق الخيال الحضاري، وإنتاج الأفكار، وفتح المجال لقيادات تغير المستقبل بالمعرفة.

وقراءة الأحداث توضح أن العالم سيشهد الكثير من الأحداث المفاجئة التي تفتح المجال لشعوب غير غربية لزيادة قوتها وتحقيق استقلالها وبناء نهضتها وتحقيق إنجازات حضارية، لكن أين الصحافة الحرة التي توفر المعرفة للجماهير عن هذه الأحداث، وتوضح لها الفرص وتحذرها من المخاطر، وتقدم لها قيادات المعرفة؟!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان