هل من انتباه؟ و”بي دي إس” مستهدفة بريطانيًّا

طالعت على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعا من كلمة السياسي والنائب البريطاني اليساري “جيرمي كوربين” أمام مجلس العموم في 3 يوليو/ تموز الجاري، التي هاجم خلالها العدوان على “جنين”، وأكد تعمد الجيش الإسرائيلي استهداف المدنيين.
وكما هو معلوم فالرجل الذي يصنف اليوم “نائبا مستقلا” كان زعيما لحزب العمال وللمعارضة بين 2015 و2020، وتعرض لحملة صهيونية ضارية واتهامات ظالمة مجنونة لانتقاداته لإسرائيل. لذا قال هذه المرة أيضا: “كلمتي هذه ليست معاداة للسامية، بل من أجل العدالة للشعب الفلسطيني”. هكذا قال بجرأة قبل أن يصوت لإسقاط مشروع قانون مناهض لمقاطعة إسرائيل وغيرها من المعتدين على حقوق الشعوب والإنسان.
وفي الأيام التالية، بحثت بالمواقع الإلكترونية لثلاث صحف بريطانية كبرى، هي “الغارديان” و”الإندبندنت” و”التايمز”، فلم أعثر فيها على إشارة إلى ما قال. وكنت أتوقعها ولو في سياق تغطية جلسة مجلس العموم هذه لمناقشة القراءة الثانية لمشروع القانون الذي تقدمت به حكومة “ريشي سوناك” المحافظة اليمنية لمنع “الهيئات العامة” كالمجالس البلدية والجامعات وغيرها من مبادراتها بمقاطعة منتجات وخدمات إسرائيل ومستوطناتها في الأراضي المحتلة عام 1967 وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها.
وفي المقابل استحوذ على اهتمام ما اهتم من هذه الصحف اللندنية اعتذار مديرة هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عن تلميح مذيعتها “إنجانا جادجيل” في سؤالها لرئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق “نفتالي بينت”: “هل جنود الجيش الإسرائيلي سعداء بقتل الأطفال؟”. وقد اعتبر “بنيت” ومعه قادة الصهاينة البريطانيون الاعتذار “انتصارا ساحقا”.
تصويت في ظل العدوان على “جنين”
وبينما كانت القوات الإسرائيلية تواصل عدوانها على “جنين”، صوت مجلس العموم البريطاني ليمر مشروع القانون المناهض لحركة المقاطعة “بي دي إس”، وليمضي في طريقه باتجاه التشريع دون إيقاف، وذلك بتأييد 268 نائبا ومعارضة 70 وامتناع أغلبية من بقي من مجلس يبلغ أعضاؤه 650 نائبا، عن التصويت.
وأورد موقع ليساريين بريطانيين يمكن ترجمة عنوانه بـ”لليسار در” (*) قائمة كاملة بكيفية تصويت كل نائب. ويتضح منها أن 10 من نواب “العمال” واثنين من “المحافظين” فقط صوتوا لإسقاط القانون. وهكذا كان الرفض بين أكبر حزبين في بريطانيا. وجاءت أغلبية المعارضة للقانون من “الحزب القومي الأسكتلندي” بتصويت 37 نائبا بـ”لا”.
وتفيد القائمة التفصيلية للتصويت بموافقة نحو 265 نائبا من “المحافظين”، لكن “الغارديان” تقول إن القانون يلقى “معارضة حقيقة” داخل حزب الحكومة، مشيرة إلى امتناع 80 نائبا من أعضائه عن التصويت. وفي المقابل يمكننا القول إن المعركة داخل حزب “العمال” حامية الوطيس مع غلبة الامتناع عن التصويت كذلك. وكذا الأخذ في الاعتبار بتصريحات زعيمه الحالي “كير ستارمر” المناهضة لحركة “بي دي إس”، كما جاء مثلا أمام الغذاء السنوي لأصدقاء إسرائيل بحزب المحافظين في نوفمبر 2021. ويضاف إلى كل هذا ما يشهده المجتمع المدني والحقوقي من تعبئة ضد هذا القانون، في حين يضرب الانقسام تجمعات الأكاديميين والمثقفين واليهود بين “مع” و”ضد”.
فكرة القانون جاءت في البرنامج الانتخابي لحزب المحافظين عام 2019، ثم انتقلت إلى خطاب العرش السنوي أمام البرلمان قبل نحو عام. ودفعت بها الحكومة عبر “مايكل جوف” وزير الإسكان والمجتمعات المحلية بمشروع قانون في 19 يونيو/ حزيران الماضي، مستندة إلى أغلبية حزبها البرلمانية. ولمزيد من فهم هذه المعركة الجارية واتساع أبعادها، يتعين الانتباه لكون معارضته لا تستند فقط إلى مجرد التضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، بل إلى أنه يهدد بتقويض الحريات في واحدة من أعرق الديمقراطيات. وهذا لأنه ببساطة ينزع صلاحيات استقرت عند الهيئات العامة المنتخبة، بما في ذلك المحليات والجامعات، بدعوى الحاجة إلى استئثار الحكومة المركزية بالتعامل مع الخارج وشؤون السياسة الخارجية.
وهذه المعارضة أيضا تأتي بعد نقلة مهمة في نظرة وخطاب كبريات منظمات حقوق الإنسان الدولية بتصنيفها الاحتلال الإسرائيلي بأنه تمييز واضطهاد عنصري “أبارتهايد”. وفي المقابل يتقدم الوزير “جوف” راعي مشروع القانون بوصفه أبرز الساسة البريطانيين اليوم تأييدا للاحتلال الإسرائيلي ولحكومته الحالية التي تمثل أقصى اليمين المتطرف. إلا أن الجبهة المعارضة للقانون تشمل أيضا كل من يخشون عرقلته لسلاح المقاطعة ضد انتهاكات ترتكبها حكومات وسلطات أخرى، كما هي الحال بالنسبة للصين وأقلية “الإيغور” المسلمة وللعسكريين الانقلابيين في “ميانمار”.
جذور وخلفيات المعركة
واللافت أن معركة هذا القانون لها خلفياتها بخصوص القضية الفلسطينية في الأشهر والسنوات السابقة بريطانيًّا وأوربيًّا ولا يمكن فصلها عن هذا السياق الجاري. في فبراير/ شباط الماضي، صوت مجلس العموم على قانون يحظر مقاطعة صناديق التقاعد للعاملين في المحليات لشركات تدعم إسرائيل. لكن في المقابل انتهت المحكمة العليا بلندن بعد نزاع قضائي استمر أربع سنوات إلى عدم قانونية تدخل الحكومة لمنع هذه الصناديق من سحب استثماراتها من شركات متورطة في صناعات السلاح ووسائل قمع الفلسطينيين الإسرائيلية. ووفق “الإندبندنت” وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن المجالس المحلية كما في “ليستر” و”لانكستر” اتخذت بالفعل قرارا بمقاطعة بضائع المستوطنات الإسرائيلية عامي 2014 و2021.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أصدرت محكمة العدل الأوربية حكما يلزم مستوردي منتجات المستوطنات الإسرائيلية بالإفصاح عن المنشأ هناك وألا يموهوه بـ”صنع في إسرائيل”. ثم جاءت دائرة التجارة بالمفوضية الأوربية لتقرر حظر تمتع منتجات المستوطنات بمزايا اتفاق المعاملة التفضيلية الجمركية الموقع بين الاتحاد الأوربي وتل أبيب عام 1995، الذي سمح للأخيرة برفع صادراتها إلى القارة الأوربية إلى ما يتجاوز 17 مليار “يورو” سنويا.
دروس جنوب إفريقيا
وكل ما سبق وكثير غيره يفيد بجدية وضراوة المعركة حول مشروع القانون البريطاني، وبأهميتها لنا فلسطينيًّا وعربيًّا. وفي ذاكرتنا والعالم أثر المقاطعة العالمية لنظام “الأبارتهايد” بجنوب إفريقيا. وبالطبع ما كان لبريطانيا أن تشارك فيها في ظل قانون على هذا النحو الذي يجري السعي لتمريره الآن.
ولعل من المفيد استدعاء موقف الأب “ديزموند توتو” القس الجنوب إفريقي الحائز على “نوبل” للسلام عندما نادى بمنع سفر فرقة “أوبرا” بلاده لأداء عروضها في إسرائيل. كما لا يفوتنا أن ندرك السياق الدولي الراهن، حيث تشدد أوروبا والغرب استخدام سلاح المقاطعة ضد روسيا لغزوها أوكرانيا، وتتوسع في جوانبه.
وتحتاج معركة الدفاع عن “بي دي إس” في بريطانيا إلى الانتباه لأهميتها، ولو كان مجتمعنا المدني والحقوقي ضعيفا ومحاصرا في بيته وبين أهله، وربما أضعف مما كان. ولكنه يظل الأقدر على التفاعل والعطاء في هذه المعارك. ولنا أسوة حسنة في نجاحه مع أقرانه عالميا خلال مؤتمر “يربان” لمناهضة العنصرية 2001 عندما أعاد الاعتبار لحقيقة عنصرية الصهيونية. وهذا بفضل نضالية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وجهود وتفاعل المنظمات غير الحكومية. وكان هذا الإنجاز، المعنوي بمثابة ضربة معاكسة تماما لخطيئة وجريمة إلغاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بمشاركة وصمت حكومات عربية لقرارها رقم 3379 لعام 1975 الذي أدان الصهيونية بوصفها أحد أشكال العنصرية.
فهل لنا من انتباه ويقظة؟
ــــــــــــــــــــ
(*) www. Leftfootforward.org
https://leftfootforward.org/2023/07/this-is-how-every-mp-voted-on-the-anti-boycott-bill/