فرقة “أولاد الأرض”.. غني يا سمسمية

"أنغام السمسمية"

 

لا تتوقف الأمم الحية صاحبة التاريخ والحضارات أمام العثرات العابرة وإن استمرت طويلا، أو كانت هزائم ثقيلة تبدو للناظرين أنها قد دُمرت أو حُطمت.

الأمم القوية الممتدة الجذور لا يوقفها تدمير ما دامت تمتلك الإرادة على النهوض، هكذا لا يتوقف التاريخ عن الإشارة إلى مثل هذه المعارك والهزائم التي مُنيت بها دول وقامت لتعيد نفسها وتبني من جديد، ولا يقاس عتاد البناء والقوة هنا نظريا بل روحيا ومعنويا.

لدينا المثل الحي في أرضنا المحتلة في فلسطين، معايير القوة لم تكن في أي وقت في صالح المقاومة، ولكن هذا الصمود هو صمود الحق والإيمان والتاريخ الذي ينحاز دوما إلى أصحاب الإيمان والحق.

في التاريخ العالمي أمثلة، مثل ألمانيا وفرنسا واليابان وروسيا، فما من دولة منها إلا وتعرضت لهزيمة قاسية دمرت بل محت بعضها مثل اليابان، وعلى مدار معارك احتُلت فرنسا وألمانيا وروسيا ولكنها قامت.

أي ادعاء أن الدول تبقى أسيرة هزيمة أو هزائم هو محض محاولة للهروب من مواجهة الواقع، ولا يدعيه إلا من فقد روحه وإيمانه، وعلينا أن نبحث عن طريق للتخلص من هذا المرض الذي يصيب بعض الأجيال، وفي ظاهره صعب لطول مدته، لكن مع الأمم هو لحظة عابرة مهما كانت الآلام والمعاناة.

في الأول من يوليو/تموز عام 1967، ظن الكيان الصهيوني بعد حرب الأيام الستة التي بدأت صباح 5 يونيو/حزيران من العام نفسه أن الدنيا دانت له، نظرا للهزيمة القاسية التي ألحقها بالقوات المصرية والعربية في سيناء والجولان والقدس، وأنه يستطيع المرح كما يشاء في الأراضي العربية.

كانت منطقة بورفؤاد شرق بورسعيد هي المكان الوحيد الذي لم يُحتل في سيناء، وتحركت قوة من المدرعات والمدمرات الإسرائيلية لاحتلال المدينة الصغيرة، وهناك وبعد أقل من 20 يوما من هزيمة يونيو، تصدت لها فرقة من قوات الصاعقة المصرية لا تتعدى 30 مقاتلا، لتدمر القوة المعادية وتجبرها على الانسحاب وتكبدها خسائر كبيرة، في ما عُرف تاريخيا بمعركة رأس العش.

هذه المعركة كانت بداية لحرب الاستنزاف التي استمرت ما يقارب الألف يوم، ولم تخمد المقاومة والمعارك على شاطئ القناة وداخل سيناء منذ ذلك اليوم حتى وقف إطلاق النار في أغسطس/آب 1969، حينما قبل عبد الناصر وقف إطلاق النار لتحريك حائط الصواريخ من القاهرة إلى السويس، ولم تستطع إسرائيل بكل عتادها أن تحتل بورفؤاد أبدا رغم قوتها العسكرية الضخمة.

ميلاد فرقة أولاد الأرض

من رحم الهزيمة القاسية، وفي ظل غيوم كثيفة غطت سماء الوطن، كانت معركة رأس العش نقطة النور وخيط النهار الأبيض الأول، وكان الشعار “ما دمنا قادرين لن نتوقف ولن نستسلم”، في تلك اللحظة كان أبناء السويس بقيادة شاعر شعبي ومُغن يعمل موظفا في إدارة الصحة بالسويس، يؤسس فرقة من أبناء المدينة الذين رفضوا التهجير إلى مدن في الدلتا أو جنوبي مصر، ليعلنوا بقاءهم حتى تحرير الأرض.

الله معاكي ينصرك دايما على من خانك

ياما واجهتي من محن بتخطي فوق خوانك

يا مصر يا حلمنا يا عشقنا

إحنا جنودك نفتديكي بعمرنا

ها نخطي بيكي الصعب ونجيب الانتصار

منذ اللحظة الأولى لتلك العثرة التي أصابت الوطن، كان على كل مبدع واعٍ بتاريخ أمته أن يبحث عن دوره في تخليص الوطن من هزيمة ظن العدو أنها ستسهل له مهمته التاريخية في بناء دولته التي يتخيلها، ولكنْ كان للشعب المصري في تلك الأثناء رأي آخر، إذ أعاد المصريون بناء قواتهم المسلحة، وذهب خريجو الجامعات المصرية ليلتحقوا مجندين لأول مرة في تاريخ الجيش، بل إن هناك من تركوا الدراسة في سنواتها الأولى ليلتحقوا به.

يعيد القادة البناء لمعركة التحرير، وفي اللحظة نفسها، كان “كابتن غزالي” يكوّن فرقته التي جابت شوارع السويس لتعيد روح المعركة القادمة، وبناء وعي أبناء السويس بتاريخ المدينة الممتد في أعماق دولة عريقة، السويس المدينة الأكثر تعرضا للضربات، وأقوى مقاومة دوما، أعضاء فرقة (أولاد الأرض) ببساطة أدوات شدْوهم المقاوم استطاعوا أن يقدّموا نموذجا شعبيا للمقاومة الإنسانية، يلملمون جروح وطن وآمال مدينة لا تعرف إلا المقاومة ليرسموا أيام التحرير القادمة بالتضحية والفداء، وعلى مقاهي السويس وفي طرقاتها كانت أغاني (أولاد الأرض) تقول إننا لا نستسلم ولا نعرف إلا النصر.

غني يا سمسمية

لرصاص البندقية

ولكل إيد قوية

حاضنة زنودها المدافع

غني للبيوت

اللي خانقها السكوت

وقولي لهم سكة تفوت

غني ودقي الجلاجل

مطرح ضرب القنابل

راح تطرح السنابل

ويبقى خيرها ليا

اشتهرت الفرقة باستخدام إيقاع السمسمية الشهير في مدن القناة، الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، الذي يعتمد على الإيقاع البحري لهذه المدن، ومستمَّد من تاريخها في البحر والقناة، كما أُطلق عليها اسم فرقة البطانية، لأن الفرقة كانت تفرش البطانية على أرض شوارع المدينة، وتجلس عليها لتشدو بغنائها الذي قام بتأليفه ووضع ألحانه كابتن غزالي، صاحب الوجه الأسمر والقامة الممشوقة، والوجه المصري الأصيل المُعبّر عن التحدي المقاوم لكل محتل يريد أن يدخل الوطن عن طريق مدينة الصمود.

كانت المفاجأة الرائعة لهذه المجموعة من المواطنين الذين يستخدمون إيقاع السمسمية الشهير، انضمام ثلاثة من مشاهير الشعر والغناء والتلحين القاهريين، الذين قرروا الرحيل إليهم والبقاء هناك في السويس على شط القناة، وهم الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والمغني محمد حمام والملحن إبراهيم رجب، وتلك القصة القادمة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان