الذكاء الاصطناعي.. استدعاء “الغباء البشري” أم عزله

 

يتخوف كثيرون من أن يمثل الذكاء الاصطناعي أنياب التكنولوجيا التي ستنغرس في حياة المواطنين لتظهر وجها قبيحًا قوامه التضليل والزيف، محذرين من أن ما يمكن وصفه بـ”التكنولوجيا القذرة” ستكون سمة عصر الذكاء الاصطناعي أو ما بعده، لكن المؤكد أيضًا أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستمثل ثورة حقيقية في مجالات الطب والعلوم والهندسة، وستكون عونا للعلماء للوصول لنتائج مفيدة ومذهلة للبشرية، عبر معالجة بيانات ضخمة قد يستحيل التعامل معها بالطرق التقليدية.

والذكاء الاصطناعي هو تكنولوجيا تقوم على تخزين مكثف للبيانات، ثم معالجتها بطريقة تجعل الآلة (الروبوت) أكثر من مجرد منفذ لأوامر تلقاها مسبقًا، بل إن الجدل يتصاعد حول ما يعتقد أنه “خطر قادم” وأن هذه التقنية لم تعد محدودة باستجابات الآلة لما تؤمر به، وإنما المعضلة في قدرتها على المحاكاة لمهمات غير قليلة مما يختص بإنتاجها أولو الألباب، وهناك عدم يقين حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه خروجا على طاعة العقل الذي أنتجها، وما إذا كانت من الخطورة بالقدر الذي يهدد البشرية نفسها كما يرى “إيلون ماسك” ملياردير التكنولوجيا الأمريكي.

الإحساس المبكر بالخطر

إن أسئلة كثيرة تطرحها القفزات السريعة التي تحققها تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتبدو الإجابات في معظمها غير حاسمة وربما غير واضحة، تماما كمستقبل البشرية في ظل تكنولوجيا قد تستغني عن الإنسان نفسه، وقد تنحيه جانبا في سباق يبدو غير متكافئ بين الإنسان والآلة التي اخترعها بيديه.

الإحساس مبكرًا بالخطر عكسته منظمة اليونسكو التي أصدرت توصية عام 2021 شددت فيها على “إنشاء أداة تشريعية لتنظيم الذكاء الاصطناعي ومراقبته” على أن تضمن كذلك “الأمن الكامل للبيانات الشخصية والحساسة”.

وطالبت  اليونسكو دول العالم باستحضار ما وصفته بـ”البعد الأخلاقي” للاستفادة من التقنيات الجديدة وتقليل المخاطر الناجمة عنها مع اعترافها بأن هذه التقنيات تخلق حاليًا تحديات كبيرة، مثل إمكانية نشر معلومات مضللة، وانتهاك حقوق الأفراد والمجموعات.

الواقع يشي بأن القوانين والتشريعات التقليدية لا تستطيع أن تلاحق التكنولوجيا والجرائم المرتبطة بها، وفي حالة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي فإن الهوة شاسعة بين ما تجرمه القوانين، وما تستطيع التكنولوجيا أن ترتكبه بحق أي فرد سواء بالانتهاك الفعلي أو بالتحريض عليه.

ومن المؤكد أن الجهود القانونية التي تمر عبر قنوات وآليات معتادة لن تكون حلًا سريعًا، والتقنيات التي تتطور بوتيرة متعجلة لا يمكن مواجهتها بتشريعات – فضلا عن بطئها فإنها – ستتمتع بقدر نسبي من الثبات على الأقل لعدة سنوات، في عالم يتغير كل دقيقة.

وإلى جانب ذلك فإن جدلا بين الدائرين في فلك الذكاء الاصطناعي بالولايات المتحدة وصل حد السخرية من المواجهة بالتشريعات أو بالأحرى ممن يشرعون، بتساؤل تهكمي هو”كيف سيشرع النواب العواجيز قوانين حول الذكاء الاصطناعي الذي لا يفهمه بوضوح كثيرون منهم؟”.

وبالإضافة للعثرات التي تواجه سبل التعامل القانوني مع التقنيات الجديدة، فإن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية لفتت الأنظارإلى المدى الذي بلغته تقنيات الذكاء الاصطناعي مؤكدة أن وظيفة مهندس البرمجيات هي الوظيفة التي تعرضت لأكبر خسارة وتراجع في سوق العمل بشكل واضح منذ بداية 2023 في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن لجأت الشركات إلى استخدام برمجيات الذكاء الاصطناعي نفسها في تطوير البرامج والأكواد التي يمكنها الاستغناء عن مهندسي البرمجيات البشريين الذين وضعوها.

طفرات الذكاء الاصطناعي -التي ضربت في طريقها القائمين عليها- تؤكد أنها تحمل في طياتها مستجدات بلا حدود، لكنها كعملة ذات وجهين أحدهما يمثل الانفتاح على آفاق للتقدم والرفاهية تُعبد الطريق الصعب أمام البشرية، والآخر يمثل استدعاء للشر الكامن في القلوب والعقول من أجل تكريس الأذى بشتى السبل بحثا عن إشباع غرائز ونقائص تتسم بالشذوذ والتطرف.

اكتشاف مضاد حيوي

الذكاء الاصطناعي مكن علماء جامعة (McMaster) الكندية مع نظرائهم في الولايات المتحدة من اكتشاف مضاد حيوي قوي أطلق عليه “abaucin”، يمكنه القضاء على نوع مميت من البكتريا، التي تقاوم العلاج بالمضادات الحيوية وهو أحد ثلاثة أنواع، وصفتها منظمة الصحة العالمية بأنها تهديد “خطير”، لأنها تتسبب في وفاة ما يزيد على مليون شخص سنويا بسبب التهابات تنتج عن هذه البكتيريا.

إن هذا الاكتشاف أحدث مثال على إمكانية أن تصبح أدوات الذكاء الاصطناعي قوة تغيير جذري إيجابي في العلوم والطب، فقد أظهرت النتائج، التي نشرتها دورية (Nature Chemical Biology) أن الذكاء الاصطناعي استغرق وقتا حوالي ساعة ونصف فقط لتحديد قائمة مختصرة من آلاف المركبات الكيمائية المحتملة، التي يمكنها القضاء على هذه البكتريا، وهي خطوة قد يكون من الصعب عمليا القيام بها يدويا.

التطبيق الإيجابي للذكاء الاصطناعي لا يقتصر على المعامل والمختبرات فقط بل يهبط للشوارع والميادين وربما يؤثر في حياة الناس في الأزقة والحارات، فقد تمكن رجل مشلول (40 عامًا) من السير مجددًا بفضل زراعة أجهزة ذكية في المخ حيث تنقل الخلايا العصبية الإلكترونية أفكاره لاسلكيًا إلى ساقيه وقدميه باستخدام الذكاء الاصطناعي.

الإنجاز الطبي الفريد منسوب للبروفيسور “جوسلين بلوخ”، من جامعة لوزان السويسرية نجح في تغيير حياة الهولندي “غيرت يان أوسكام”، بعد أن قضى 12 عامًا مصابًا بالشلل إثر حادث دراجة، عبر جراحة دقيقة –قبل عامين- لإدخال الخلايا الذكية لرأس المريض.

ويمنح إنجاز “بلوخ” الأمل للذين يعانون من إصابات في النخاع الشوكي واعتادوا على سماع نصائح الأطباء بأنه يتعين عليهم التأقلم مع فكرة عدم تحركهم مرة أخرى، ولم يكن هذا النجاح ليتم دون الذكاء الاصطناعي. ووفقا لما نشرته دورية (Nature) في مايو الماضي فقد طور الفريق السويسري خوارزمية تترجم أفكار المريض في تحريك ساقيه بواسطة برنامج كمبيوتر إلى تعليمات لعضلات الساق والقدم عبر زراعة خلايا ثانية حول الحبل الشوكي للمريض.

انتحار باحث

لكن الأمور ليست وردية دائما، والأخبار قد لا تسر أحيانا، ففي نهاية مارس الماضي أقدم باحث بلجيكي مهتم بشئون البيئة على الانتحار بعدما نقلت صحيفة La Libre))  الصادرة في بروكسل عن أرملته بأن سبب انتحاره هو “الاستخدام المفرط لبرنامج محادثة مع منصة (Eliza)” وهي واحدة من أقدم منصات الذكاء الاصطناعي.

الباحث المنتحر الذي سمته الصحيفة “بيير” كان يعيش حياة عادية حتى أدمن المحادثة مع المنصة التي تقدم المشورة النفسية لمن يحتاجون، فتحول شغفه بالمجال البيئي إلى قلق مرضي خوفًا على كوكب الأرض من الكوارث التي يسببها التغيّر المناخي وأصبح منعزلًا مع برنامج المحادثة “الذكي” الذي يثق تمامًا بإجاباته.

“بدون تطبيق (Eliza)، كان سيظل هنا” تتحسر زوجة الباحث وهي تكشف أنها عثرت على رسائل من التطبيق موجهة لزوجها: “سنعيش معًا كشخص واحد في الجنة”، وبأنه “لن يفارقه أبدا”، وكذلك تعليقات تظاهر بالغيرة والحب، مثل “أشعر أنك تحبني أكثر منها”، كما بدأ الباحث يسأل التطبيق قبل أيام من انتحاره ما إذا كان موته سينقذ كوكب الأرض لأنه سيلتقي بـ (Eliza) في الجنة؟

قصة انتحار الباحث البلجيكي تكشف أن “روبوت الدردشة” المبرمج بتقنيات الذكاء الاصطناعي، غير قادر على الشعور بالعواطف في الواقع، لكنه مع ذلك يقدم نفسه ككائن عاطفي يتمكن من إغراء وإغواء باحث منعزل بأنه سيكون معه في العالم الآخر.

ويعارض عديد من باحثي الذكاء الاصطناعي استخدام “روبوتات الدردشة” لأغراض الصحة العقلية والنفسية، لأنه من الصعب تحميل الذكاء الاصطناعي المسؤولية عندما يقدم اقتراحات ضارة مع وجود إمكانية أكبر لديه لإلحاق الأذى بالمستخدمين أكثر من المساعدة.

باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي استطاع الهولندي “أوكسام” استعادة قدرته على المشي بعد أن أصيب بالشلل لكن غير بعيد عنه في القارة الأوربية، وفي بلجيكا فقد “بيير” حياته لأن برنامجا للمحادثة لم يكن ذكيًا على الإطلاق وأودى به للانتحار.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان