أفكار فقهية عظيمة لم يكتبها القرضاوي

العلامة الشيخ يوسف القرضاوي

كنت قد كتبت مقالا نشر على موقع الجزيرة مباشر، بعنوان: كتب يتمنى القرضاوي كتابتها، وذكرت بعض الكتب التي تمنى أن يكتبها، ولم ينته منها بعد، وعندما صدرت موسوعة الأعمال الكاملة له، وجدت بعضا منها قد صدر بالفعل، منها كتابه عن السيرة النبوية، وكتاب آخر له في قضايا تتعلق بأصول الفقه، لكنه لم يتم كل ما أراد، رحمه الله.

ولكن مقالي الآن، يتناول موضوعا آخر، ليس الكتب التي كان يود أن يكتبها، بل الأفكار العظيمة التي لم تكن تحتاج إلى كتب لكتابتها، بل تحتاج إلى أن تخرج ولو في مقالات منفردة، وهي أفكار مهمة في عالم الفقه والبحث العلمي، وقد كانت تخرج منه عند نقاشه في مسائل معينة، وبخاصة عندما يناقشه شخص ويحاجّه في موضوعات شائكة، وقد جمعت ما أسعفتني به الذاكرة هنا من أفكار عظيمة ومهمة صدرت منه في إطار النقاش العلمي، سواء في أوقات تأمل للقرضاوي، أو بعد سؤال وجهته إليه كي أتعلم منه في مسألة أبحث فيها.

دليل من القرآن على عدم الرجم

دار نقاش مع شيخنا حول موقف الشيخ محمد أبي زهرة في الرجم، وقد كان أبو زهرة ينفي الرجم، ويعتبره منسوخا، وأنه لا يليق بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أن يمسك بحجر ويضرب به رأس إنسان حتى يموت. وإذ بشيخنا القرضاوي يقول لي: عندي دليل من القرآن على أن الرجم ليس حدا، فقلت له: ما هو؟ فقال لي: تتبع كل كلمة (العذاب) في القرآن الكريم في سياق العقوبة، ستجد أن معناها الجلد لا الرجم، ثم بدأ يسرد لي الآيات، فقال: إن القرآن بين في سورة النور أن العذاب هو الجلد، فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2)، ثم قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا}: أي: جلدهما، ثم تحدث في نفس السورة عن عقوبة المرأة الزانية التي لا يملك زوجها شهودا على فعلها، وهم ما يعرف في ديننا باللعان، فقال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} (النور: 8)، أي: الجلد، فالضمير يعود إلى أقرب مذكور، ولا يذكر في السورة كلها إلا الجلد، وهو أقرب مذكور هنا، والحديث هنا عن زانية متزوجة وليست بكرا.

ثم قال تعالى عن عقوبة الإماء إذا زنين: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (النساء: 25)، وقال تعالى مخاطبا نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} (الأحزاب: 30)، فهنا القرآن تحدث عن العقوبة بصيغة العذاب، والذي يقبل التضعيف، ويقبل التنصيف هو المعدود، فليس هناك نصف موت، ولا مضاعف.

فأخذ القرضاوي من مفردة (العذاب) في القرآن الكريم في سياق العقوبة، على أنها لم ترد إلا في سياق الجلد لا الرجم، مما يدل بوضوح على أن القرآن في حديثه عن عقوبة الزنى لا يتحدث إلا عن جلد، ولا حديث له عن الرجم.

قاعدة عظيمة في الحدود

وقد أخذنا النقاش مع شيخنا بعد أن بين رأيه في الرجم، وأنه يميل إلى أنه ليس حدا، وأنه تعزير، فقلت له: وكيف نفرق بين الحد والتعزير في ضوء فهمك للقرآن والسنة؟ فقال: القاعدة عندي أن ما ورد في القرآن الكريم فهو حد، وما انفردت به السنة وخلا منه القرآن الكريم، فهو تعزير وسياسة. ولم أجد أحدا -فيما أعلم- من قبل قد وضع هذه القاعدة، وربما كانت في رؤوس فقهاء قالوا برأيه، لكنها لم تنقل عن أحد منهم، وفي الحقيقة عند تأمل نصوص القرآن والسنة، سنجد القاعدة التي نحتها القرضاوي صحيحة، وبالرجوع لمبحث السنة وهل يمكن لها أن تنفرد بتشريع الحدود، سنجد أدلة وتفاصيل لهذه القاعدة.

فمن الحدود التي وردت في القرآن: حد القتل، وحد السرقة، والجلد في حد الزنى، وحد القذف، ولا نجد أحدا يخالف فيها من الفقهاء قديما أو حديثا، وهي عقوبات نص القرآن الكريم عليها بوضوح، بينما عقوبة: شرب الخمر، والرجم، والردة، وإتيان الرجل الرجل، أو المرأة المرأة، كلها دار حولها خلاف قديما وحديثا، وقد انفردت السنة النبوية بالحديث عن عقوباتها، ولذا رأينا من يقول بأنها تعزيرية وليست حدودا، أو من يقول بأنها حد، ولكن لا يوجد إجماع عليها، دلالة على أن انفراد السنة بها، جعل عقوباتها لا ترقى إلى درجة القطع.

لكل شيء في الكون مقصد

كان القرضاوي قد أجرى عملية كبيرة في ركبتيه، فقد كان دائم الشكوى منهما، فتقرر طبيا إزالة الركبتين الطبيعيتين، وتركيب ركبتين صناعيتين، وقامت دولة قطر باستقدام جراح ألماني شهير وماهر في جراحة العظام، لإجراء العملية، وكان المفترض أن يتم استبدال الركبة اليمنى، ثم بعد فترة اليسرى، لكن القرضاوي اختار أن تكون العملية مرة واحدة في الركبتين معا.

وكان من المفترض أن يسافر إلى ألمانيا لإجراء العملية، لكن السلطة القطرية نصحته بعدم السفر، وأن الأكثر أمانا له، أن يجريها في مستشفى حمد بقطر، واستجاب للنصح الذي جاءه من الشيخ حمد بن جاسم وزير خارجية قطر آنذاك. وقد حكى لي صديق عزيز حضر العملية، أنها كانت مؤلمة جدا وشديدة، وكيف تحملها رجل في سن وعمر الشيخ آنذاك، وقد أجريت له العملية قبل حرب العراق ببضعة أيام.

ذهبت لزيارة الشيخ بعد إجراء العملية، والشيخ لا يخرجه من ألمه وشعوره بالألم، إلا أن تحدثه في العلم، أو حديثا يؤنسه، ولذلك ذكريات نذكرها في مقال آخر إن شاء الله. فسألت الشيخ، وقلت له: جرت عادتك أنك لا تكتب الشعر إلا في حالات محددة، كلها تتعلق بالخلوة، فإما أن تكون في جو خلاب مناسب، وتخلو بنفسك، فتكتب، وإما في السجن، أو في فراش المرض، فماذا كتبت لنا من قصائد؟

فقال: لا، لم يعد لدي قابلية لكتابة الشعر، فسألته: ففيم فكرت وتأملت؟ فقال: كنت الليلة مشغولا بفكرة عن مقاصد الشريعة، وتأملت في أن لكل مخلوق خلقه الله في هذا الكون مقصدا، يعمل لأجله، ويسعى لتحقيقه، فالحيوان له مقصد، والجبال لها مقصد، والنمل له مقصد يعمل لأجله، وظل يشرح الفكرة بكلام لم يكتبه من قبل. وعندما كتب كتابه عن مقاصد الشريعة لم أجد هذه الفكرة، فقد نسيها عند الكتابة، وجل من لا يسهو، ولم أجدها فيما بعد في بقية كتبه.

وهناك أفكار أخرى في موضوعات تتعلق بالقرآن الكريم، أو السنة النبوية المطهرة، أو أصول الفقه، أو العقيدة، ربما نجدها في أوراق متناثرة للشيخ رحمه الله، وربما كانت في مجالس علم، أو لقاءات ونقاشات علمية، وما أكثر ما كان يثريها القرضاوي بنقاشاته وحججه، التي تدل على أنه فكر في هذه الموضوعات المطروحة، وأنه مات ولم يخرج كل ما لديه، وهذا هو دور تلامذته، ومن كانوا يلتقونه في مثل هذه المناسبات العلمية، لجمع هذه المتناثرات المهمة، التي لا شك أنها تكمل الصورة العلمية عنه، رحمه الله رحمة واسعة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان