الانقلابات العسكرية شر مطلق.. والإصلاح البعيد عربيًّا وإفريقيًّا!

استقلت النيجر عن فرنسا عام 1960، وخلال 63 عاما من عمر هذه الدولة جرت 5 انقلابات عسكرية، أحدثها انقلاب 26 يوليو/ تموز الماضي.
سواء فشل الانقلاب أم نجح، فلن يكون الأخير في هذا البلد الذي تعرض للانقلاب الرابع في 2010. وربما أثارت الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة التي مرت دون دبابات، تفاؤلًا بأن النيجر استقرت سياسيًّا، وأن الانقلاب صار مستبعدًا، لكن تظل هي ومعظم بلدان إفريقيا، ومعها دول عربية، مخلصة لهذا الشر المطلق وهذا السلوك العسكري البغيض بانقلاب الضباط على نتائج الصندوق والنظام المنتخب وسحق الإرادة الشعبية والدستور، والخلاصة من حكمة التاريخ وتطورات الأحداث أن الإصلاح السياسي والديمقراطي يبدو بعيدًا عربيًّا وإفريقيًّا في المستقبل القريب على الأقل.
بوركينا فاسو المجاورة للنيجر شهدت انقلابًا على الحكومة المدنية، ثم انقلب الجنرالات على أنفسهم، وفي مالي وغينيا فرضت الدبابة كلمتها العنيفة، وكلها تقع في نطاق دول الساحل والصحراء، ويضمها تجمع غرب إفريقيا (إكواس)، وغالبية بلدان القارة تتعاطى الانقلابات وتُحكم بدكتاتوريات عتيقة.
دحر الانقلابيين
منظمة “إكواس” تبدي حماسًا للتدخل العسكري في النيجر كملاذ أخير لدحر الانقلاب وإعادة الشرعية الدستورية، وإذا كانت جادة في انحيازها للديمقراطية فإن عليها عدم إطالة الوقت لإزاحة الانقلابيين لأن مرور الأيام دون فعل سياسي أو عسكري حاسم سيكون في صالح العسكر حيث يرتبون أوراقهم ويثّبتون أقدامهم ويكتسبون كل يوم أرضًا جديدة كما يحشدون مواطنين نفعيين وغافلين ومخدوعين بادعاء أن بلدهم يتعرض لمؤامرة وعدوان خارجي وانتهاك لسيادته، في حين أنهم هم المعتدون على الشعب والدستور وهم الذين يتاجرون بالسيادة حيث ينقلون التبعية من دولة كبرى إلى أخرى، (من فرنسا إلى روسيا غالبًا، وربما تكون معها الصين).
تحريك الدبابات
لا يُؤتمن جانب مؤسسات القوة في غير الديمقراطيات مهما استقرت الأوضاع السياسية وحصل تداول سلمي للسلطة عبر الانتخابات، فلديهم تحفز دائم لتحريك الدبابات لانتزاع السلطة، أو الهيمنة الكاملة عليها.
فهناك قادة بارعون في كسر الإرادة الشعبية وتعطيل الدساتير والقوانين وسلب الحكم والتحكم في الدول التي تتحول إلى مستنقع فساد وإفساد وسجن كبير وفرض السكوت على الأصوات المخالفة.
وانتزاع السلطة ليس عملهم ولا دورهم، والمفارقة أنهم في ممارسة دورهم المكلفين به وهو حماية الدولة والدفاع عن الأمن القومي يتعرضون للانكشاف، فهم إما يتقاتلون على السلطة كما في السودان حاليًّا، أو يتعثرون في دحر تنظيمات متطرفة أو جماعات متمردة مسلحة رغم فوارق القوة لصالح الجيوش المشغولة بقصور الحكم أكثر من ردع ومواجهة الأعداء.
بلدان إفريقيا شهدت 27 انقلابًا منذ مطلع الألفية، منها ٧ خلال العامين الأخيرين فقط، بما فيها انقلاب النيجر، و٢٠٥ انقلابات منذ أن حصلت بلدان القارة على استقلالها نهاية خمسينيات القرن الماضي، نجح منها 167 وفشل الباقي، لتكون إفريقيا بذلك أكثر قارات العالم بؤسًا وشعوبها الأشد فقرًا وتعاسة وأنظمتها الأشد استبدادًا.
أمريكا اللاتينية والحكم العسكري
ظل الحكم العسكري في أمريكا اللاتينية يغرس مخالبه وأنيابه في دولها، وقد شهدت عقودًا من القهر والفقر والفساد والتصفيات والمعتقلات، ثم تحررت من القبضة الشديدة الغلظة للعسكر وتحولت إلى الحكم الديمقراطي المعقول، إلا كوبا وفنزويلا.
ورغم أن الديمقراطية هناك لا تزال في طور النشأة، فإنها تسير على طريق صحيح، وقد سبقت إفريقيا المنكوبة، كما تجاوزت آسيا، ومن أسف أن آسيا سبقت هي الأخرى إفريقيا في مسار الإصلاح السياسي والديمقراطي، فلا انقلابات فيها إلا في ميانمار، وهي آخر دولة آسيوية يصر الجيش فيها على سلب السلطة من الأحزاب والقادة المنتخبين.
كان الاعتقاد أن تونس خلال العشرية الأولى بعد ثورتها قد اقتلعت آفة الدكتاتورية ورسخت أقدامها على الطريق السليم للحكم الديمقراطي، وأنها نجت من الاستبداد العائد بقوة، لكن الختم الإفريقي شبه المقدس لابد أن يُطبع على كل بلد في القارة مهما كان تطور شعبه سياسيًّا وثقافيًّا وتعليميًّا، فقد انتكست تجربتها وعاد حكم الفرد مجددًا، وهذه المرة على أيدي رئيس مدني منتخب، وما شجعه على انقلابه السياسي والاستمرار فيه دعم المؤسسة الأمنية وهذا يضاعف الأزمة فالذي أطاح بالديمقراطية رجل قانون يرتدي حلة مدنية وليست عسكرية مطرزة بالنجوم والنياشين، لكن عقله قد يختزن أفكارًا لا تؤمن بالديمقراطية التي أوصلته إلى الحكم.
مدنيون سيئون أيضًا
ومن أسف أن المدنيين في القارة المنكوبة قد لا يقلون سوءًا عن الضباط الذين يطيحون بهم، إذ عندما يصل بعضهم إلى الحكم بصندوق الانتخابات، فإنهم ينقلبون عليه، ويرفعون السلم حتى لا يصعد أحد بعدهم إلى الحكم، كما يتفننون في تعديل الدساتير لإزالة المواد التي تمنع ترشحهم مجددًا، ويصنعون سياسات ويصدرون قرارات تتسبب في أضرار كبيرة لشعوبهم، وهم بذلك يمنحون الجيوش فرصة إسقاطهم وتسويق ذلك عند الشعوب بأنهم أحرص على الدستور والإرادة الشعبية ومصالح الناس من المدنيين، وهو قول مخادع.
يدفع شعب النيجر، والشعب السوداني، والمواطنين في مالي وبوركينا فاسو وغينيا وإفريقيا الوسطى وكل بلدان الانقلابات وحكم الفرد أثمانًا باهظة من حريتهم وكرامتهم ومعيشتهم بسبب تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الانقلابات والحكم غير الرشيد.
الفقر والمرض والحرمان آفات تفتك بشعوب يائسة محبطة ومُغَيّبة ومُفَرّطة في حقوقها ويتم التلاعب بها من الاستبداد والفساد أو هي تقبل أن تبيع نفسها بثمن بخس أو بدون ثمن.
والمدهش أن يخرج أناس في النيجر لدعم الانقلاب، أو يرضوا بإخراجهم للدفاع عن الباطل السياسي، والحاكم المنتخب مهما كانت أخطاؤه فإنه تسهل معارضته والضغط عليه لإصلاح تجاوزاته، بل وإسقاطه في الانتخابات، أما الجنرال الذي يجلس مكانه فلن يقدر أحد على معارضته أو استبداله حيث لا حرية لأحد ولا ديمقراطية لشعب.
