“الذوق” خرج من مصر. ماذا حدث في مقام السيدة نفيسة؟

حين تدلف إلى أسوار مدينة القاهرة الفاطمية، من باب الفتوح الملاصق لمسجد “الحاكم بأمر الله”، ستلحظ على يسارك خلف الباب الضخم مباشرة، قبة خضراء صغيرة متواضعة في بنائها مكتوب عليها “ضريح العارف بالله سيدي الذوق”.
تتعدد الروايات حول سبب وجود ضريح (نحو متر مربع) في هذا المكان للرجل الذي يعتقد أنه من أصول مغربية، وعاش في أواخر دولة المماليك التي حكمت مصر بين عامي 1261-1517م.
أشهر الروايات أن “حسن الذوق” كان تاجرا معروفا بأدبه الجم ولسانه الحلو وكلماته الحكيمة، مما أكسبه شهرة بين سكان القاهرة.
كان الذوق لقبا على مسمى، وكان مفتولًا يستخدم قوته وحكمته في الإصلاح بين الناس، وكان ذا اعتبار وسطوة بين فتوات شوارع وأزقة وحواري القاهرة القديمة، وكثيرا ما نجح في تهدئة شغب بين الحرافيش أو وقف مشاجرة بين التجار أو إنهاء صراع بين الفتوات.
ولأنه لا يسلم الأمر دائما، فقد نشبت مشاجرة كبيرة داخل أسوار القاهرة، ولم ينجح حسن الذوق في وقفها، رغم مكانته بين الفتوات والتجار، وأعيته الحيل في لم الشمل مرة أخرى.
غضب “الذوق” وتملكه شعور بالغصة، وأحس بفقد الهيبة واهتزاز المكانة وتراجع القيمة، ولم يستطع المهاب أن يتقبل هذا الموقف بسهولة، فعزم أن يخرج ليلًا من القاهرة بحثًا عن أرض جديدة لا تعرفه.
حمل “الذوق” أمتعته وتوجه نحو باب الإقبال الذي يعرف حاليًا بباب الفتوح. كان للقدر رأي آخر يأبى أن يترك “الذوق” قاهرة المعز، فانتظره رسول المنايا قبل أن يبلغ الباب بخطوات، وبدلا من أن يجد دابة تحمله إلى بلد آخر، تلقفه ملك الموت إلى العالم الآخر.
سقط “الذوق” وهو خارج من “مصر”، التي كانت تطلق على القاهرة بكل مكوناتها، فانزعج أهل العاصمة وحزنوا على وفاته المفاجئة، وانتهى جدالهم وهم يستحضرون دراما رحيله باتفاقهم على دفنه في المكان الذي قبضت فيه روحه.
رمزية الضريح
ورغم وجود مقابر علي بعد أمتار خارج بابي الفتوح والنصر، إلا أن رمزية مكان الضريح – داخل الباب – كان بمثابة اعتذار متأخر للرجل الذي كان ينوي الخروج من القاهرة، عاتبًا وغاضبًا من أهلها، لكن المنايا لاحقته فلم يفعل.
“الذوق ما خرجش من مصر” تتردد تلك الجملة حتى يومنا هذا في أحياء القاهرة الشعبية، على الألسنة التي تحاول التهدئة بين متخاصمين أو متعاركين، مستوحاة من هذه القصة، مصحوبة بعبارات تقليدية مثل “اهدوا يا جماعة وصلوا على النبي”.
لم يخرج حسن الملقب بـ”الذوق” من مصر، ودُفن داخل أسوارها. لكن غير بعيد عن قبر الرجل وفي موضع آخر بالقاهرة الفاطمية خرج “الذوق الحقيقي” من مسجد السيدة نفيسة، وحلت محله عشوائية المال ووحشية الثراء، وبريق الذهب، ولمعان الفضة، بعد أن تم إعادة افتتاح الضريح المغلق منذ نحو عام، حاملًا جفوة وغُربة لم تكن طبيعية بين “جامع ستنا نفيسة” ومريديها.
توغل الإنفاق اللامحدود – في غير موضع- ومد يده عابثًا بالأثر التاريخي، الذي حفظه الدهر منذ قرون، وتكفلت نوايا تدعي أنها طيبة، بجعل المقام الأحب لأهل المحروسة، مجرد صالة أفراح تزدحم بالإنارات الباهرة و”الكهارب”.
ماذا حدث للضريح
كان مسجد السيدة نفيسة قبلة للزوار يتبارك به المقبلون على عقود القِران، ويوصي بتشيبع جنازاتهم منه محبوها، والمتعلقون بأهداب وصالها، لكن زيارة له الآن بعد افتتاحه ستكشف أن أمرًا جليًا قد حدث في الضريح الأثري جعله قاعة في أحد فنادق النجوم الخمس أو السبع.
لا يحتاج الأمر لاعتراضات من أثريين معتبرين أو مختصين في العمارة الإسلامية، ليلاحظوا تكسية الحجارة القديمة برخام فاخر أو اختفاء أسماء حكام مصر الذين رمموا المسجد من قبل مثل السلطان حسين كامل والرئيس أنور السادات.
لا يحتاج الأمر لمتخصص يكشف أن باب الضريح الفضي قد أزيل وأن المقصورة النحاسية القديمة قد غادرت المرقد إلى غير رجعة، وأن عناصر الزخرفة الإسلامية والشبابيك الجصية قد تم نحرها تحت وطأة الرخام.
خرج “الذوق” فغاب الفن وحلت البهرجة والاستعراض، واختفت معالم العمارة الأصيلة من مسجد حفيدة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
لم يعد ضريح “نفيسة العلوم” كما كان بأضوائه الخضراء وجدرانه العتيقة، ومشكاواته القديمة، التي تبعث شعورًا بالراحة والهدوء، وكانا سمة تغلف أحاسيس زوار المسجد الذي أقيم وسط منطقة مقابر (جبانات) قبل أكثر من ألف عام.
تغير كل هذا واختفى مع مزاعم الترميم أو التجديد الذي تكفلت به طائفة “البُهرة”، وحل بدلا منه الرخام الفخم، والأضواء الساطعة، والأسطح اللامعة، وشاهد ضريح يتزاحم فيه لونا الذهب والفضة، في بهرجة لا تليق ببناء يتحلق حوله الفقراء والمتعبون منذ قرون، يحبونه لأنه يشبههم في البساطة، والتواضع، ويمنحهم السكون دون زخرف مبالغ فيه، أو مظهرية لا تتفق مع قبر سيدة تنتمي لآل البيت النبوي.
لن تفلح عبارة “الذوق ما خرجش من مصر” في تهدئة الغاضبين منذ إعادة افتتاح مسجد السيدة نفيسة الذي يقع في حي الخليفة العريق، فقد خرج الذوق فعلا من مصر، ويبدو أنه لن يعود قريبا.
للسيدة نفيسة التي عاشت بين عامي 762 – 824 م مكانة خاصة بين أهل مصر، فقد أجمعت المراجع التاريخية على صحة وجودها في مصر ودفنها، بمرقدها الحالي في الجامع المعروف باسمها.
“كراماتُها كثيرةٌ جدًا، وقد اشتهر أمرُها في الآفاق، حتى إن أهلَ الحجاز يغبِطُون أهلَ مصر بوجودها عندهم”، ويضيف شمس الدين السخاوي في كتاب “الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام بن حجر” عن السيدة نفيسة: “إنَّ النيل توقَّف، فأرسلت بقناعها وأمرتهم أن يلقوه في النيل ويحضروه إليها، فزاد في الحال إلى أن وفَّى الغرض وزيادة”.
بقي أن مصادر عديدة ذكرت أن إسحق المؤتمن زوج السيدة نفيسة لما قُبضت كان يريد نقلها لتدفن في بقيع المدينة المنورة، لكنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له “اترك نفيسة لأهل مصر فإن البركات تتنزل عليهم ببركتها”.
ترى هل هناك مسؤول صالح في المحروسة، ينام مستغفرًا فيرى رسول الله في رؤيا وهو يأمره بلطف – قد لايستحقه- “اترك نفيسة لأهل مصر”.

