“شوقي جلال” محنة مترجم ومفكر مع المرض والنكران

شوقي جلال

ذكرتني محنة “شوقي جلال” مع المرض ونفقات العلاج، وقد جاوز المترجم والمفكر والكاتب التسعين من العمر، بالراحل الدكتور “عبد الوهاب المسيري”، وكيف ظل ينتظر سنة بعد أخرى عبثا ردا على طلب العلاج على نفقة الدولة المصرية، حتى امتدت إليه يد الاهتمام والعناية والرحمة من أمير سعودي يعرف فضله وقيمته وعطاءه للعرب أجمعين.

جيل ثلاثينيات القرن العشرين

بمولده عام 1931 وتخرجه في قسم الفلسفة بكلية آداب جامعة القاهرة عام 1956 ينتمي “جلال” إلى جيل تفتح وعيه على اكتشاف عالم خرج من أتون الحرب العالمية الثانية، وعاش واجتهد لفهم عواقبها العاصفة، وكذا تحرر المستعمرات. وسبقه الكاتب الصحفي الشهير “أنيس منصور” للتخرج في ذات القسم والكلية والجامعة بتسعة أعوام. وكان له بدوره اجتهاداته “للتفلسف” على صفحات المجلات والجرائد، وعلى نحو مثير وجماهيري إلى حد البساطة أو السطحية، أو كما ترى عزيزي القارئ. وكان “منصور” مثقفا يعمل “من داخل المؤسسة”، وقد تولى مناصب قيادية في صحافة الدولة، وظل مقربا من السلطة و”الريس”، وفي الواجهة وتحت الأضواء، ومن “نجوم الكتاب والصحفيين”.
أما “شوقي جلال” فهو مثقف يعمل في صمت ودأب من خارج “المؤسسة”، ويدهش من يتتبع سيرته ومساره منذ أول ثلاثة كتب ترجمها ونشرها في خمسينيات القرن العشرين: “مذكرات تشارلز داروين”، و”بافلوف حياته وأعماله”، و”السفر بين الكواكب”. كيف استطاع مثقف بلا وظيفة ولم يهاجر ليعمل سنوات بوظيفة في دول الخليج ومع ظروف اقتصادية معيشية وسياسية صعبة في بلد كمصر أن يستمر ويترجم نحو 75 كتابا ذات وزن يعتبر، وتعد من الصناعة الثقيلة للفكر والثقافة والحضارات والعلم والتكنولوجيا؟! وكيف استطاع أن يقدم أيضا لقراء العربية نحو 15 كتابا مؤلفا، يكفي استعرض عناوينها دليلا على العمق والجدية والحفر في العمق. وهي من قبيل “أركيولوجيا العقل العربي: البحث في الجذور”، و”الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل”، و”التراث والتاريخ: نظرة ثانية”، و”الشك الخلاق: في حوار مع السلف”.
وإلى جانب العديد من مقالاته ودراساته الجادة على مدى عقود منذ ستينيات القرن العشرين المنشورة في مجلات ثقافية معتبره مثل “الفكر المعاصر” المصرية و”العربي” الكويتية، حملت كتب سلسلة “عالم المعرفة” بالكويت أيضا إلى آلاف من قراء العربية من الخليج إلى المحيط ترجمات “جلال” منذ بداية عقد الثمانينيات لنحو 16 كتابا. وكل عنوان منها يمثّل مرجعا في العلم والتفكير العلمي من أجل تقدم مجتمعاتنا ونافذة على الجديد في هذه المجالات. ونكتفي بأن نذكر القراء بـ”بنية الثورات العلمية” لـ”توماس كون” و”الإسلام والغرب” لـ”جراهام فوللر وإيان ليسر” و”تاريخ العلم” لـ”جون جريبين”.

ومن قبل ومع حركة النشر في مصر السبعينيات قدم لقراء العربية “المسيح يصلب من جديد” رائعة الروائي المفكر اليوناني”نيكوس كازانتزاكس”.

ولا نبالغ عندما نضع شوقي جلال بين قائمة أبرز شيوخ المترجمين العرب الباقين على قيد الحياة اليوم. ونظرا إلى اختياراته في نقل معارف العالم الحديثة وآفاقه إلينا وإلى كتابته عن مشكلات هذه الترجمة، استند إليه تقرير التنمية الإنسانية العربية “نحو مجتمع المعرفة” الصادر عام 2003 عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وهو الوثيقة المعرفية الفريد من نوعها، والتي يبدو أنه لم يصدر على مدى عقدين ما يضاهيها في الأهمية والشمول والمصداقية.

يساري يكتب
“نهاية الماركسية”

يصف “جلال” نفسه وفي حوارات صحفية معه بأنه “يساري مستقل”. وفي آخر زيارة له وهو على فراش مرض “الفشل الكلوي”، اختار أن يهديني طبعة جديدة من كتابه “نهاية الماركسية”، الذي صدرت طبعته الأولى قبل نحو ثلاثين سنة. وبدا هذا الإهداء بمثابة توكيد لما بلغني عبر صوته الواهن عن مشروع فكري تنويري اختاره منذ كان طالبا بقسم الفلسفة، والتزم ذاتيا بالعمل عليه بصرامة ومثابرة.
وبنص عبارات الكتاب قال: “لا ماركس معلق في الفضاء ولا هو خاتم المفكرين وصاحب القول الفصل” منبها إلى أن أفكار “ماركس” جاءت وليدة تطورات القرن التاسع عشر وسياقه الأوروبي، وأن قيمة الماركسية، وهي ماركسيات وليست واحدة، في قراءتها العقلية والمنهجية التحليلية لعصرها.

وهي قراءة أكد “جلال” أنها قابلة للنقد، بل تتطلبه من أجل محاولة فهم ما يتجاوز جغرافيا وزمان “ماركس”. وهذا هو ما يراه منتقدًا الإيمان “بنظرية” تقوم على عبارات ومطلقات وحتميات، تزعم دولة أو حزب أو جماعة أو زعيم احتكار تفسيرها، بوصفها صالحة لكل زمان ومكان، ولا يأتيها الباطل أبدا. وقد يتخذها أي منهم منطلقا وتبريرا للاستبداد والقمع ولتسلط نخبة امتيازات على الشعب، وحتى على الطبقة العاملة التي يدّعون الحكم باسمها.

كتاب “شوقي جلال” ينقد هذه “الماركسية” التي راجت، ويدعو إلى تجاوزها، وإلى القراءة الجادة والنقدية لكل المدارس والرموز الفكرية التي خرجت من عباءة “ماركس” أو تجاوزته وعارضته. وهو في هذا لا يخرج عن دعوته مجتمعاتنا العربية إلى أن تتحرر من ميراث السلف ونقل النصوص، وأن تأخذ بالمبادرة بالتفكير العلمي والنقدي والإبداع الذاتي، وإلى تحمل الإنسان المصري بخاصة والعربي عموما مسؤوليته في الإسهام في بناء حضارة المستقبل، والتفاعل مع الواقع. هذا مع تأكيده أن شرط هذا الطريق هو حرية الإنسان وانعتاقه من الاستبداد والتسلط بكل أنواعه.

تنوير لاسلطوي
يطرح شوقي جلال” عبر مسيرته أمامنا نموذجا للمثقف الداعي إلى تنوير غير سلطوي. وهو الذي مرّ بتجربة الاعتقال والتعذيب في عقدي الخمسينيات والستينيات، مرة متهما بأنه من “جماعة الإخوان” ومرتين بتهمة انتمائه لتنظيمات شيوعية، وبالشبهة ليس إلا. لم يتورط في العزف مع جوقة مدعي التنوير المضبوط على “نوتة” سلطة تمارس نفس ما عاناه في شبابه ومن مربعها ولصالحها. بل طالما حذر مما سماه “خطأ التحديث الشكلي”، وكما جاء في كتابه المشار إليه هنا: “إن مناهضة العقل الحر هي معاداة للحداثة وإعاقة لعملية التحديث وقتل لفرص التنشئة الإبداعية أو تعطيل المؤسسات الدستورية أو الحد من فرص المشاركة الحرة في صنع القرار أو الحصول على المعلومات أو الحكم من خلال إرادة حاكم فرد أو شخصية كارزمية أو مستبد عادل أو تقييد حرية الفكر والممارسات السياسية.. إلخ، جميع هذه المظاهر هي معاداة للحداثة بمعناها العصري الراهن وإعاقة للتحديث، ومن ثم فهي ردة”.

*
كنت أنا وغيري وما زلنا نتمنى أن ينتبه مسؤول أو جهة في الدولة المصرية إلى معاناة “شوقي جلال” -ومترجم وكاتب ومفكر تنويري محترم من طراز خاص- مع المرض ونفقاته التي لا يطيق، ولو على سبيل رد بعض جميل مثقف مبدع دام عطاؤه نحو ستة عقود أو تزيد. لكن وبعد مضي نحو 50 يوما من المرض ودعوات بلا استجابة من عارفي علمه وفضله، وبينهم الشاعر “أحمد عبد المعطي حجازي” على صفحات “الأهرام” ، ليس على المرء إلا أن يتلفت لينظر إلى شرق العالم العربي وغربه، وإلى كل مكان صدرت منه ترجماته وكتبه وانتشرت لتصبح متاحة لقراء اللغة العربية، وحيث قدم إسهاماته في مشروعات وخطط عمل للترجمة والفكر، لعل هناك من ينتبه، ويهتم، ويقدم لمسة وفاء منتظرة.
فلا تتركوا هذه القامة الثقافية وحيدة في مواجهة المرض وأعبائه.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان