على متن الطائرة الخاصة من مصر إلى زامبيا!

عندما شرعتُ في كتابة هذا المقال، كان أمامي خبر مؤسف، وهو اعتقال صحفي يُدعى كريم أسعد يعمل في منصة (متصدقش)، وهي منصة رقمية تنشر موضوعاتها على موقعَي التواصل الاجتماعي، فيسبوك وإكس (تويتر سابقًا)، وقد أسَّسها الصحفي الراحل محمد أبو الغيط، بهدف كشف الخداع والتضليل في أخبار وموضوعات متداولة.
الاعتقال تم ليلة السبت الماضي، وغالبًا لأنه يُنقّب وراء الطائرة الخاصة التي انطلقت من مصر إلى زامبيا مساء الأحد 13 أغسطس/آب الجاري، ووصلت إلى مطار كينيث كاوندا في لوساكا صباح اليوم التالي (الاثنين).
وقد اكتشفت السلطات هناك أنها تحمل ما يقرب من 6 ملايين دولار، ومسدسات وبنادق وذخائر، وصناديق فيها قضبان من الذهب تزن 127 كيلوغرامًا، وفيما بعد قيل إنها لم تكن ذهبًا، بل قضبانًا من النحاس مخلوط بالقصدير والنيكل، وكان على متن الطائرة 6 مصريين، وأشخاص من جنسيات أخرى.
تم معرفة أسماء 5 من المصريين الستة، أو هم من الأصل 5، وليسوا 6، فالبيان الأول للسلطات في زامبيا لم يكن دقيقًا في تحديد رمز الطائرة (TZ-WW)، والمدهش أن تقوم منصة (متصدقش) بتصحيح الرمز إلى (T7-WSS)، وتتبارى هى ومنصة (صحيح مصر)، وموقع (مدى مصر)، ومنصات ومواقع أخرى خارج منظومة الإعلام التقليدي الرسمي الضخمة ذات الإمكانيات الكبيرة والعائد الصفري، وكذلك ناشطون على مواقع التواصل، يقوم هؤلاء بالبحث الدؤوب وراء الطائرة، وتقديم معلومات شبه كاملة عنها، تقريبًا كل ما يرتبط بتاريخها وتسجيلها والجهة التي تديرها وعدد رحلاتها، بما في ذلك رحلاتها من القاهرة وإليها، وعددها 126 رحلة، كما قدّموا معلومات عن المصريين الذين كانوا على متنها وأعمالهم، بمن فيهم شخصية نسائية ظهر اسمها لأول مرة الأحد الماضي، وقيل إنها مضيفة الطائرة، وكذلك من قيل إنه قائدها.
الطائرة وارتباطاتها
من الجيد الإفراج عن كريم سريعًا، والقبض عليه لم يكن مفيدًا للحكومة، إذ تسبب في مزيد من الشكوك حول ما يتردد عن الطائرة وارتباطاتها وعلاقاتها والأموال والذهب أو المعادن التي كانت عليها، وشخصيات الموجودين على متنها وأهدافهم وتحركاتهم وتشابك علاقاتهم مع آخرين، ورذاذ كل ذلك طال شخصيات مهمة أو شخصيات قريبة من السلطة، لكننا لا نسير وراء شائعات، أو استنتاجات دون معلومات موثقة، أو كتابات على خلفية صراعات.
السلطة كان عليها ألا تقترب من هذا الصحفي، وألا تُظهر ضجرًا ممن يتناولون تحقيق القضية مهنيًّا بمسؤولية، فهم يمارسون عملًا صحفيًّا مفيدًا وسط موت الصحافة التقليدية، وتهافت الشاشات، لا نتحدث عن معارضة الصراخ والإثارة وتوزيع الاتهامات دون أدلة.
بيان متأخر
لم يكن مناسبًا أن تتأخر السلطات يومين حتى تُصدر بيانًا بشأن الطائرة، وحتى هذا البيان جاء قصيرًا لا يجيب عن الأسئلة والاستفسارات الأساسية المتداولة، ولا يُسكت الشائعات أو المعلومات غير الدقيقة، بل فتح الباب واسعًا أمام أقاويل تتزايد باستمرار.
كان يجب الإفصاح والوضوح والصراحة والمبادرة وامتلاك طرف الخيط وقطع الطريق على أي معلومات تبدو زائفة، لكن الحكومة لم تفعل، وإعلامها مكبَّل وموجَّه، ولا ضوء أخضر لديه للكتابة أو القول المقنع، لهذا تخسر مرارًا في موضوعات عديدة داخلية وخارجية.
مع صعود مواقع التواصل والخبرة المتراكمة للناشطين و(اليوتيوبرز) ومع اتساع الوعي، فإن السكوت والتجاهل والبناء على فكرة أن الناس تنسى سريعًا، أو الاعتماد على رسائل مضادة تتسم بالسذاجة أو المبالغة تروجها لجان إلكترونية، لم يعد ذلك مفيدًا للسلطة، بل هو استنزاف لها، وسحب من منحنى الثقة فيها، فمتى تنتبه لهذا الأمر المهم والضروري؟
مكاسب زامبيا
زامبيا حققت مكاسب كدولة ونظام حكم أمام شعبها والعالم، لمجرد أنها تحدثت عن الطائرة وتفاصيلها سريعًا، وقدّمت معلومات شبه وافية.
هذا البلد أثبت يقظة أمنية من خلال ضبط الطائرة والخروج منها بقضية اتسعت إعلاميًّا وسياسيًّا، وعكست الشفافية ودولة القانون هناك، علاوة على التعامل الجاد مع الموضوع والتحقيق مع الفريق الذي كان في الطائرة، وقد حرص رئيس الدولة بنفسه على تأكيد محاكمة المتورطين، ولمّا تسربت شائعة أن الطائرة غادرت مطار لوساكا، تم تنظيم زيارة عاجلة للصحفيين لمعاينتها وهي محتجزة.
سؤال دون إجابة
وهنا سؤال: كيف ظلت الطائرة ساعات بمطار القاهرة وعلى متنها هذه الصناديق إذا كانت قادمة بها من آخر، وهبطت ترانزيت في مصر؟ هل فُتشت أم لا؟ أو كيف دخلت الصناديق من المطار إلى الطائرة إذا كانت رحلتها بدأت من القاهرة، ولم تكن ترانزيت؟ حتى الساعة لا يزال السؤال من دون إجابة، كما لم تقل القاهرة شيئًا عمن كانوا يركبون الطائرة، والمفترَض أن بياناتهم كلها في المطار، ولدى السلطات المختصة.
النظام السياسي الحاكم في زامبيا منتخب، والرئيس الحالي هاكيندي هيشيليما كان زعيمًا للمعارضة، وفاز في الانتخابات الرئاسية عام 2021، وسقط أمامه الرئيس المنتهية ولايته، وقد ترشح للرئاسة خمس مرات من قبل، ولم ينجح، واعتُقل 15 مرة منذ دخل السياسة، وقد وصف نفسه بأنه “راعي ماشية” حيث كان يرعى الماشية لعائلته قبل أن يواصل تعليمه في زامبيا ويحصل على الماجستير من بريطانيا، ويجتهد في تكوين ثروة كبيرة من العمل بالسياحة والرعاية الصحية والتمويل وتربية الماشية، ومن هنا نفهم لماذا يصارح شعبه والعالم، كما ندرك لماذا تجاوبت مؤسسات التمويل والدول الدائنة مع مطلبه بجدولة ديون بلاده وتخفيض نسبة فوائدها ومد أجل التسديد خلال قمة دولية استضافتها فرنسا أخيرًا.
نحن في مصر بحاجة إلى المصارحة والمكاشفة، وبحاجة إلى التفكير والعمل السياسي المنفتح، وليس التفكير والأداء الذي يغلب عليه التوجس الأمني، فهذا هو المسار الصحيح، وهذه نظرة خاطفة متأنية لقضية الطائرة، ويا ليت الأجهزة المعنية تعيد شريط أحداثها لتقف على سلبيات المعالجة، أو تدلنا على الإيجابيات، إذا كانت موجودة.
