عرائس الماريونيت.. مُعلَّقة في خيوط

المسرح في المقام الأول جمهور باحث عن التعايش الوهمي مع ما يدور على خشبته، فلا يمكن لأي عرض مسرحي أن يتم بدونه وإلا تصبح اللعبة ناقصة أو بلا جدوى، فالجمهور هو أساس اللعبة، ولا يبدأ المخرج والممثلون عرضهم إلا بهذا الحضور الجماهيري.
ممثلو العرض إذا صعدوا إليه ولم يتلقوا التحية من الجالسين على مقاعد اللعبة الوهمية يصيبهم الاكتئاب والحزن، وربما يعتزل الممثل أو الممثلة العمل المسرحي لو شعر بغياب جمهوره عن قاعة المسرح أو السينما، قد تكون اللعبة الدرامية التلفزيونية أكثر حظا من المسرح والسينما لعدم الوجود المباشر بين الممثل وقائد عملية التمثيل المخرج والجمهور، وأحيانا لا يهم ممثلي الدراما التلفزيونية عدد مشاهدي العمل، فهو مختلف عن الوسيلتين الأخيرتين.
مسرح عرائس
إذَن الجمهور هو حجر الزاوية في المسرح، ذاهب بإرادته إلى مكان العرض وهو يعرف مقدَّما أنه يتعرض لعمل وهمي، وعندما يرى المخرج ذلك يبدأ في عمل مقدمة عرضه مستخدما أدواته كالموسيقى، يقف الممثلون في مقدمة المسرح يستقبلون الجمهور وهم يرتدون ملابس من العرض أو غيرها، وقد تكون ذات طابع ملون مزركش، توحي للقادم أنه سيرى عالما أسطوريا.
المخرج في العمل المسرحي هو قائد العمل الذي يحرك ممثليه، ليظل المسرح وأدواته من إضاءة وموسيقى واستعراض، ممثلين جاذبين للمتلقي، أما مخرج العرائس فغالبا يكون صاحب العرائس ومصممها، يشكل لها حركاتها وملابسها، وأحيانا يسهم بالصوت في العملية المسرحية الوهمية.
بدأ مسرح العرائس في العمل بنظرية أن المخرج هو الكل في الكل، فهو صاحب كل الأدوات والأصوات، ومؤلف العرض والوهم، وتطور الوضع ليشاركه ممثلون وموسيقيون ومغنون، ولكنه ممسك بكل الخيوط، لا يُبعد رأسه عن المسرح، ولا يظهر إلا في نهاية العرض ليلقي كلمة الختام.
مخرج العرائس
يهتم المخرج بأن يظل جمهوره في حالة انجذاب للخشبة المسرحية، لذا فهو حريص أن تبقى تلك الخشبة ممتلئة بالحركة والأحداث، وعندما ينشغل جمهور المسرح بحدث ما وتبدأ همهماته خارج الموضوع، يشعر المخرج بخطر القاعة ومن ثم انصراف الجمهور عن عرضه، فيبدأ في لعبة الإظلام والإضاءة، فيُظلم منطقة الممثل الذي فشل مع الجمهور ليسحبه، ويضيء منطقة أخرى في المسرح، وما بين إغفاءة الجمهور إثر الظلام وإفاقته تتغير الأحداث، ويبدأ عرض أكثر سخونة، ليعيد إلى الجمهور انشغاله بالخشبة وما يجري عليها.
لا يمكن للعرض أن يتم ويتواصل بدون حالة جمهور الوهم، الذي يجد في نهاية يوم متعب وشاق في العرض المسائي تسلية عن صعوبة حياته، ليجلس مسترخيا متلقيا ما يجري أمامه من أحداث، ليصل إلى مكان نومه وقد استنفد كل طاقة لديه.
إذا جاء إلى العرض المسرحي جمهور يقظ، يبدأ المخرج في التوتر والقلق، فكل ما يُقدَّم تحت المنظار، يبدأ صوت القاعة في الارتفاع ساخرا أو ناقدا، هنا لا بد للمخرج أن يجد حلا لتلك الأزمة التي تهدد عرضه إذا هتف الجمهور “سيما أونطة.. عايزين فلوسنا” أو “إيه اللي بيحصل ده؟”، وتلك الجملة تكون في قاعة المسرح.
يفكر المخرج في حلول لأزمة انصراف الجمهور أو نقده اللاذع للعرض، هنا أمامه طريقان، الأول استدعاء رجال أمن المسرح ليُخرجوا المنتقدين، ويدخل رجال الأمن مدجَّجين بقوتهم البدنية، يمسكون بتلابيب المنتقدين، وهم غالبا أصحاب أجسام ضعيفة لا حول لهم ولا قوة، فيسحبونهم خارج المكان، وربما يخفونهم عن الأنظار، أو لا يسمحون لهم بالدخول مرة أخرى إلا بعد إنهاكهم، يدخلون العرض صامتين، وإن تحدثوا أثناء العرض فهو حديث هادئ جميل لا يهدد استمرار عرض المخرج ومعاونيه.
الحل الثاني الذي قد يضطر إليه المخرج هو تغيير طاقم العرائس أو الممثلين، يأتي بعرائس جديدة، أو ممثلين جدد، بل قد يضطر إلى استخدام ممثلين الخفاء لديه، وممثل الخفاء هنا ليس خافيا عن الجمهور، ولكن وسائل الإعلام صنعت منه والمخرج حالة خلاف، الممثلون الجدد كانوا دوما على خلاف مع المخرج، والمخرج ما أن يقدّم أي منهم عرضا حتى يخرج ناقدا العرض وساخرا منهم، ولكن الآن الجميع على خشبة واحدة، يلعبون معا من أجل إخفات صوت المسرح، وإعادة الجمهور المنصرف إليه.
الخيوط ملك صانع العرائس
الجميع يرتبط بخيوط، فالممثلون الذين جاؤوا فجأة إلى خشبة مسرح العرائس، مربوطون بخيط يمسكه المخرج ومساعدوه، وأصبحوا سمنا على عسل معهم، يتبادلون الأدوار مع ممثلي المسرح القدامى، يقدّمون فقرات متتالية في محاولة إشعال الخشبة والأهم الجمهور، ينتقل المسرح من صراخ وعويل بين القدامى والجدد، إلى تبادل نكات بينهم، وربما تحدث بعض المعارك الوهمية بين الممثلين الجدد.
قد يظن البعض أن مخرج العرض وصانعه حر طليق، يصنع عرائسه ويحركهم بلا ضابط له، وتلك وجهة نظر قاصرة تماما، فبينما يبدو المخرج حرا، إلا أن الجميع يعرف كيف أصبح مخرجا للمسرح، فقد قدّم فروض الولاء والطاعة للهيئة العامة للمسرح، ولمديره الذي يسمح له أن يكون قائدا للعرض، قد يكون قد تعرّض لإهانات كثيرة من المخرج السابق أثناء عمله في فريقه، قد يكون قدّم ولاءات لمن سبقه، أو لممثلين كبار كي يحصل على هذه الفرصة، المهم أن يصل ليصبح متحكما في الخشبة ويحرك عرائسه كيفما يشاء.
دائرة متتالية من المخرجين، الممثلين العرائس، الممثلين، مديري المسرح، الموسيقيين، لاعبي العرائس، مساعدي المخرج، منتقديه، كل هؤلاء يرتبطون بيد في الخفاء، يلعبون مع جمهور عريض لعبة التسلية، يبقى الجمهور في أماكنه حتى يظهر لاعب عرائس جديد، وفي ظهره خيط طويل يصل إلى المحرك، ولا بديل عن لعبة الحقيقة إلا قطع هذا الخيط الرابط بين المسرح واللاعب الخفي.
