لماذا غاب العرب عن “أرض الظلام” التي تنير فرنسا؟!

بين كل ثلاثة مصابيح تضيء في فرنسا، هناك مصباح واحد يستمد طاقته من النيجر عبر مفاعلات توليد الكهرباء التي تعمل باليورانيوم، الذي تستورده حكومة باريس من تلك الدولة الإفريقية التي قبعت تحت قبضة الاستعمار الفرنسي منذ عام 1900 بشكل جزئي، وكليًّا منذ عام 1922 حتى نالت استقلالها في أغسطس/آب 1960.
الانقلاب العسكري الذي أطاح منذ أسابيع بالرئيس المدني المنتخب قبل عامين محمد بازوم، فتح عيون العالم العربي على بلد غالبيته من المسلمين، أطاح جيشه بأول رئيس ينتمي إلى الأقلية العربية، التي تمتلك ثروات واضحة، كقبائل رعوية، لكنها كانت عازفة عن المشاركة السياسية قبل بازوم الذي يُنظر إليه بوصفه أحد أذرع نفوذ فرنسا في منطقة الصحراء الكبرى، وربما آخرها.
عرب “ديفا” هي قبائل البدو التي تعيش في شرق النيجر، وهي أفرع للقبائل السودانية الناطقة بالعربية، التي امتدت من السودان غربًا نحو جمهورية تشاد، ومنها إلى النيجر المتاخمة، وتُمثل الأقلية العربية نسبة 1.5% من تعداد سكان النيجر البالغ نحو 25 مليون نسمة، وإلى هذه الأقلية ينتمي محمد بازوم الرئيس الذي أطيح به يوم 26 يوليو/تموز الماضي قبل أن يتم دورته الأولى، وسط شكوك من الخرطوم بشأن دوره في دعم قوات الدعم السريع ضد الجيش السوداني.
قيمة النيجر
ربما فوجئ معظم العرب -حكامًا وشعوبًا- بأن رئيسًا عربيًّا يجلس في سدة الحكم ببلد إفريقي غني بالموارد رغم فقر سكانه، وبأنه بلد يصدّر 2000 طن من اليورانيوم سنويًّا بما يمثل 5% من إنتاجه في العالم، وبأنه يسهم بربع (25%) إمدادات الطاقة النووية التي تستهلكها قارة أوروبا.
وفي بلد يبلغ ناتجه المحلي 14 مليار دولار، وتُمثل المساعدات الخارجية نحو 40% من ميزانية الحكومة، فإن العالم العربي -دولًا ومؤسسات- يختفي طواعية من قائمة المانحين للنيجر التي تقبع في ذيل قائمة الدول الأكثر فقرًا في العالم.
وتتلقى النيجر مساعدات من البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وألمانيا وفرنسا، بينما يغيب العالم العربي بحكوماته ومؤسساته عن بلد تُمثل الصحراء الكبرى نحو 83% من مساحة أراضيه، وله حدود مباشرة مع دولتين عربيتين هما الجزائر وليبيا.
يسجل الأزهر الشريف وجودًا رمزيًّا في البلد الذي يُشكل المسلمون السُّنة غالبية سكانه، عبر عشرات من مبعوثي الأزهر المعارين إلى المدارس الحكومية في النيجر والذين يقومون بتدريس اللغة العربية والعلوم الشرعية الإسلامية.
وتستفيد النيجر من تصميم الأزهر الشريف لبرامج تدريبية متخصصة لمكافحة التطرف من خلال أكاديمية الأزهر العالمية لتدريب الأئمة والوعاظ، وهو الجهد المنظم الوحيد في بلد يقع بين مناطق تماس التنظيمات المتطرفة دينيًّا في الغرب الإفريقي.
تسهم منظمة “أطباء بلا حدود” بنشاط إغاثي في منطقة “ديفا” التي تنسب إليها الأقلية العربية، بينما أفاد تقرير لمنظمة “يونيسف” في عام 2021 بأن الهجمات والاضطرابات على طول الحدود مع بوركينا فاسو ومالى ونيجيريا أدت إلى عمليات نزوح كبيرة تسببت في ارتباك حياة مئات الآلاف من الأطفال، مما أدى إلى إغلاق 377 مدرسة بسبب انعدام الأمن.
ووسط هذه الإغلاقات، فإن معهدين أزهريين فقط، هما “جوتا” و”الأنوار”، تثبت بهما المؤسسة الأكبر للإسلام السُّني في العالم الحضور العربي الوحيد في حقل التعليم.
ورغم كثرة منظمات الإغاثة والبر في الدول العربية فإن نصيب النيجر منها يكاد يكون منعدمًا، مع كونها بلدًا يقع نصف سكانه تحت خط الفقر.
الحضور الصيني
وفي ظل حضور فرنسي طاغٍ، وسيطرة شبه تامة على عقول معظم أبناء النخبة في البلد الذي تحيطه سبع دول بحدود تمتد إلى نحو 5.7 آلاف كيلومتر، فإن الصين التي لا يعنيها الحضور العسكري ولا النفوذ السياسي تحتل المرتبة الثانية من حيث كم الاستثمارات في النيجر بنحو 2.68 مليار دولار، وهناك تجارة بينية تجعل بيجين راغبة في استقرار الأوضاع في البلد الذي أصبح محط أنظار العالم عقب انقلاب 26 يوليو الماضي.
وتمول شركة “بترو شينا” الصينية خط أنابيب يمتد من النيجر إلى ميناء “سيم” في دولة بنين المجاورة التي تطل على المحيط الأطلسي، وسط تساؤل عن عدم تنافس أي كيان عربي على مشروع مثل هذا في منطقة أقرب إلينا بحكم التاريخ والجغرافيا.
تغيب الدول العربية عن قائمة المستوردين من النيجر، إذ تحتل فرنسا المركز الأول بنسبة 31% من صادرات النيجر، وتايلاند بنسبة 12%، وماليزيا بنسبة 10%، ونيجيريا بنسبه 9.5%، ثم مالي بنسبة 5.5%، وأخيرًا الصين بنسبة 5.3%.
وبالمثل، فإن الدول العربية تختفي من قائمة الدول المصدرة للنيجر، وهي على الترتيب فرنسا بنسبة 28%، والصين بنسبة 16%، والولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 7.8%، ثم نيجيريا وتايلاند بنسبة 5.8% لكل منهما.
وبينما تعتقد فرنسا أن ثروات النيجر الطبيعية هي جزء من أملاكها التاريخية، فإن شعورًا يتنامى ضد نفوذ فرنسا في هذا البلد المحاط بالصحراء والتطرف والفقر، رغم أنه يصدر الذهب بنحو 2.7 مليار دولار، ويعتمد 80% من سكانه على النشاط الزراعي.
وعلى الرغم من إشارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن روسيا لا علاقة لها بالانقلاب الذي أطاح الرئيس المنتخب محمد بازوم، فإن الكرملين التقط إشارة الغضب ضد فرنسا وتطلّع العوام إلى دور روسي يخلصهم من “الاستعلاء الفرنسي”، وهاتف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائد الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تياني.
ومهما كانت طبيعة الحوار بين بوتين وتياني فإن الدور الفرنسي يتراجع تحت وطأة ضغوط شعبية وإقليمية، وبينما أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية قاعدتين عسكريتين لتحصل على موطئ قدم في غرب الصحراء الكبرى، فإن الصين حريصة على عدم المشاركة في أي تلاسن بالتصريحات قد يضر بمصالحها الاقتصادية في النيجر وما حولها.
بقي أن جامعة الدول العربية -الكيان الأكبر والأقرب- غائبة حتى بالتصريحات والبيانات، رغم تماس الجزائر -وهي عضو مهم بالجامعة- مباشرة مع الأزمة في النيجر التي يهدد أي اضطراب فيها استقرار الجزائر الجارة الشمالية.
وفي بلد يملك سادس أكبر احتياطي في العالم من اليورانيوم، تشير إحصاءات رسمية إلى أن 83% من سكان النيجر يعانون الظلام بسبب عدم توافر الكهرباء، وبينما تبحث روسيا والصين وفرنسا وقوى أخرى عن أدوار تحفظ لها وجودها -الحالي أو المحتمل- اقتصاديًّا أو سياسيًّا، فإن العرب يتجاهلون بلدًا هم أقرب إليه، وهو أقرب إليهم، تاركين للقادمين من أراضٍ بعيدة فرصًا سهلة للانقضاض على بلد فقير يملؤه الظلام رغم أنه ينير فرنسا.
