النضال.. مهنة نخبوية مصرية تأبى الانقراض

(AFP)

ليس أمرًا مستغربًا في مصر المحروسة، أن يُقدّم أحد الأشخاص نفسه لك وللآخرين بأنه مناضل، أو أن يقوم أحد المنتسبين للنخبة السياسية بتعريف نفسه على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي بالمناضل، أو أن يتم تقديمه من أتباعه في المؤتمرات والندوات بالمناضل أو الزعيم أو المعارض، كونه دائم الاعتراض، أو معتاد النضال، حتى في عدم وجود احتلال أو استعمار وما شابه ذلك، هو في حقيقة الأمر من فئة المحتجين والمناوئين لأي شيء وكل شيء، من باب إثبات الوجود، بالتالي أساء للنضال وللمعنى السامي للكلمة.

بالفعل تفتحت أعيننا ومداركنا في مرحلة الصبا ثم الشباب على فئة من البشر لا شغل ولا شاغل لهم سوى المعارضة والنضال، مضى نصف قرن من الزمان، والحال هو الحال، بعضهم غادر الحياة الدنيا بالطبع، إلا أن البعض الآخر ما زال على الدرب حتى الرمق الأخير، مهنة يتوارثها الأتباع من جيل الشباب، سوف تجدهم في عالم الصحافة والإعلام بشكل خاص، في الميادين والاحتجاجات إن وجدت، في الندوات والمؤتمرات على الدوام، في مواقع التواصل على شكل لجان وكتائب، في مكاتب الجمعيات الحقوقية، في شقق الأحزاب الوهمية، في انتخابات النقابات أيضًا.

بارعون في الحنجورية

الغريب أن الرأي العام يُلدغ من الجحر مرات ومرات، فهؤلاء بحكم الأمية والانحدار الثقافي يجدون من يصدقهم، فهم بارعون في “الحنجورية” والخطابة واستخدام المصطلحات الثورية، في الأغلب الأعم تجدهم من الفئة المطحونة اجتماعيًا في بداية حياتهم النضالية، بعد عقد واحد من الزمن سوف تكتشف تبدل الحال رغم أنهم لا يعملون في وظائف تدر عليهم دخلًا، عقد آخر من الزمان سوف تجدهم من الأثرياء رغم أنهم لا يديرون أعمالًا تدر عليهم ربحًا، يستحقون لقب أثرياء النضال، كانت مصادرهم للثراء في القرن الماضي بعض عواصم الرفض لاتفاقية كامب ديفيد، الآن اختلفت المصادر وتنوعت، من “بوتيكات” إعلامية ممولة، إلى أخرى حقوقية أكثر تمويلًا.

بلا مبالغة، كان النضال مهنة، استمر كذلك حتى وقتنا الحاضر، في الماضي كان هناك تمويل رسمي لأحزاب المعارضة، كما كان هناك تمويل رسمي لصحفها، كما كانت هناك “كوتة” أو عدد منهم يتم الاتفاق عليه مع النظام الرسمي لدخول البرلمان، أحيانًا كان يتم استخدامهم للانقلاب على رئيس الحزب أو رئيس التحرير إن خرج عن الخطوط الحمر، كان هناك “كوتة” تأشيرات حج وعمرة يتم الاتجار بها، أو التكسب والترزق من خلالها، تطور الأمر إلى تجارة أراضي ووحدات سكنية، وربما ما هو أكثر من ذلك.

طوال الوقت كانت الجهات الأمنية ضالعة في تحريك معظم أحزاب المعارضة بالشكل الذي تراه، كانت ضالعة في اختراق هذه الأحزاب بأعضاء ممن يطلق عليهم “الأمنجية” الذي يعملون لحساب جهات الأمن، كثيرًا ما جرت انقلابات داخل الأحزاب والصحف بفعل هؤلاء، إلا أن الجديد في الأمر هو أن يتم تجنيد هذا أو ذاك من أحد الأحزاب أو التيارات، لكتابة بلاغات في آخر أو آخرين من أحزاب وتيارات أخرى، بهدف الوقيعة بين اليمين واليسار مثلًا، أو بين الليبراليين والناصريين، وما شابه ذلك.

كيف يمكن لهؤلاء أو أولئك مطالبة النظام -أي نظام- بالإفراج عن سجناء الرأي؟ في الوقت الذي لا يتحملون فيه رأيهم في بعضهم بعضًا، كيف يمكن لهؤلاء وأولئك الحديث عن حرية الرأي أصلًا؟ ما بالنا إذا انحازوا إلى الأنظمة المستبدة في أوطانهم أو خارجها، ما بالنا إذا أعلنوا دعمهم لهذا النظام الفاشل أو ذلك النظام الفاشي، امتدادًا لحالة الترزق والتكسب والثراء وعقد الصفقات ليس إلا، ربما نضبت خزائن صدام حسين، أو خوَت خزائن معمر القذافي، إلا أن أبسط قواعد الأخلاق توجب الانحياز للشعب السوري الشقيق، ولنضال الشعوب بشكل عام، ما بالنا بالشعب السيد والوطن الأُم.. مصر.

الوضع المزري

أعتقد أن الوضع المزري للنخبة السياسية المصرية الآن هو الأخطر والأضعف في تاريخها على الإطلاق، بفعل وجود هؤلاء في صدارة المشهد السياسي، من حوارات وطنية، إلى أحزاب سياسية، إلى تيارات يطلقون عليها مدنية وهي في الحقيقة منهم براء، وهو الأمر الذي كان يجب أن يكتشفه رجل الشارع مبكرًا، منذ أن دأب هؤلاء على انتهاج سياسة الدروشة للوهم الأزلي، عبادة أصنام انهارت بفعل رياح التطور والتقدم، ولم يعد لها أي وجود في العالم، إلا أنها التجارة المضمونة الربح والثراء.

ربما كنت من قلائل لم يفاجأوا ولم يندهشوا أبدًا مما يجري على الساحة الآن، ذلك أنني كنت أدرك من البداية كم أننا أمام وضع نخبوي وحزبي هش، في غياب قوى المعارضة الأولى ممثلة في التيار الإسلامي، وربما كان هذا الغياب مهمًا لكشف هذه الحالة من العداء بين أصدقاء الأمس الذين شيدوا صداقتهم على أنقاض الآخرين، ثم راحوا يعملون على تصفية الحسابات مع بعضهم بعضًا بتوجيهات واضحة، ونحن على مشارف انتخابات رئاسية، ظن البعض أنها فرصة للم الشمل.

على أي حال، كان على القوى الليبرالية، (التي أتحفظ على علاقة بعضهم بالأمريكان، وأبغض موقف البعض الآخر من إسرائيل)، أن تعي منذ البداية، أن توحّدها تحت راية واحدة، سوف يشكل أزمة كبيرة للتيارات السياسية الهشة بشكل عام، خصوصًا قوى الوهم الأزلي، أو ما يسمى باليسار والناصريين، وهي القوى التي اعتادت عقد الصفقات في الماضي والحاضر، وتسعى الآن لصفقات المستقبل، وهو ما جعلها جناحًا مهمًا للأجهزة الأمنية داخل المنظومة السياسية، وسوف تسعى بالطرق كلها إلى تعويق أي مسار يؤدي إلى الديمقراطية، ذلك أنهم اعتادوا التسبيح بحمد الديكتاتوريين في كل مكان، أحياءً وأمواتًا، داخل البلاد وخارجها، بالزي المدني أو العسكري، ويجدون دائمًا وأبدًا المبررات، حتى لو استدعى ذلك التحالف مع أيديولوجيات على النقيض، كالإخوان، وهو ما حدث بالأمس القريب.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان