لا ذكورية في الفقه

 

 

من الاتهامات المغرضة التي توجّه للفقه الإسلامي، والفقهاء الكبار الذين أسسوا المذاهب، أو المدارس الفقهية على امتدادها، أو من أتوا بعدهم وأسهموا في تطويرها ومسيرتها، الاتهام بأن الفقه الإسلامي ذكوري، أي: أنه يعلي من شأن الذكر على الأنثى، وأنه مملوء بالظلم عليها، وقد وجدت عالمًا من علماء المغرب تصدى للرد على هذه الشبهة، برسالة لطيفة كتبها بعنوان: (لا ذكورية في الفقه)، وهو الأستاذ الدكتور محمد التاويل -رحمه الله تعالى وغفر له-، ولأنه أصاب كبد الحقيقة في كثير مما عرض ورد، فسنورد أهم ما ذكره في رسالته صغيرة الحجم من (85) صفحة، لكنها عظيمة النفع، وإن لم تخل من بعض ملاحظات.

جهل من يشيعون ذلك بمفهوم الفقه:

يبدأ الدكتور محمد التاويل رده على أصحاب هذه الشبهة، بأن أول ما يقع فيه الذين يثيرون هذا الكلام، من ذكورية الفقه ورجولته، جهلهم بالفقه الإسلامي ومفهومه، فالفقه وإن كان في جزء كبير منه يقوم على عقول الفقهاء وجهودهم وهم بشر، إلا أنه في أصله وأساسه على التشريع الإسلامي نفسه، وهو ليس مجرد عمل بشري يتأثر بأحاسيس الفقيه ومشاعره، كما هو الشأن في الأدب والرسم وغير ذلك من الإبداعات الفنية.

فالفقه مجموعة من الأحكام الشرعية بعضها وحي من الله تعالى، نزل بها الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-، في الكتاب والسنة في شكل نصوص قطعية الدلالة أو ظاهرة الدلالة، ليس للفقيه أمامها إلا الإيمان بها والالتزام، وإذا لم يجد ما يعارضها مما هو مثلها أو أقوى منها، فليس من حقه ولا حق غيره ردها، والاعتراض عليها، أو تعديلها، لأنها وحي من الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [سورة الأحزاب: 36].

كما أن هناك مجموعة أخرى من الفقه تعدّ اجتهادية، إلا أنه بالرغم من صفتها الاجتهادية فإن الفقيه لا يستقل بصياغتها، بل هو ملزم بضوابط معينة لا يتجاوزها، ومعايير محددة لا يمكنه مخالفتها، ومرجعية ثابتة لا تتصف بذكورة ولا أنوثة، فالفقيه هنا مجرد باحث عن ذلك الحكم الغائب المجهور، ومكتشف له، إذا عثر عليه من خلال الأدلة الشرعية المنصوص عليها أعلنه، والتزمه في عمله وإفتائه وقضائه وتعليمه، ونسب إليه لأنه اكتشفه، لا أنه شرّعه، وإذا لم يعثر على الحكم توقف، وقال: لا أدري.

اجتهادات رجالية ضد الرجل، ونسائية ضد المرأة:

ومن دلائل جهل من يطلقون هذه الأقاويل على فقهنا الإسلامي والفقهاء، واتهامه بأنه ذكوري، أنهم لم يطلعوا على هذا التراث الفقهي المهم، ولو نظروا فيه نظرة تأمل سيجدون قضايا فقهية تتعلق بالمرأة، كانت نظرة الفقيه الرجل مع المرأة، ونظرة الفقيهة المرأة ضد المرأة، إذا جاز أن نعدَّ الرأي هنا مع أحد أو ضده، فالقول الفقهي بوجه عام يصدر عن اجتهاد، وجهد فكري وفقهي من مصدره، ولكننا وجدنا اجتهادات رجالية ضد الرجل، واجتهادات نسائية ضد المرأة، ولذلك أمثلة عدة.

فرأينا في قضية حق المرأة في الذهاب للمسجد، رأي السيدة عائشة ضد خروجها للمسجد، وكانت ترى منعها من ذلك، وتقول: لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد، بينما كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يرى أن للمرأة الحق في الخروج للمسجد، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”، بل إن ابن عمر قاطع ابنه، لأنه قال بمنع المرأة من الذهاب للمسجد.

وفي قضية حق المرأة في ولاية النكاح، كان رأي عائشة -رضي الله عنها- ألا حق للمرأة في عقد النكاح على نفسها، ولا على غيرها من النساء، في حين يرى أبو حنيفة أنه يجوز للرشيدة أن تزوج نفسها، كما يجوز لها أن تبيع مالها.

ومسألة حق المبتوتة في النفقة والسكنى، فقد كانت فاطمة بنت قيس وهي من المهاجرات الأول، ترى أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وكان عمر -رضي الله عنه- يخالفها، ويرى لها النفقة والسكنى، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تنكر على فاطمة ذلك، وقال المالكية: لها السكن دون النفقة، وقال الحنابلة بقول فاطمة، وأخذ الحنفية بقول عمر -رضي الله عنه-.

وفي حكم المرأة المرتدة، كانت عائشة -رضي الله عنها- ترى وجوب قتلها، وكان ابن عباس لا يرى قتلها، وقد أخذ الجمهور بقول عائشة، وأخذ الأحناف بقول ابن عباس، وكذلك المرأة الساحرة، كانت ترى حفصة -رضي الله عنها- قتلها، وكان عثمان بن عفان لا يرى قتلها، وقد أنكر على حفصة أنها قتلت أمة لها سحرتها.

رفض نساء لاجتهادات رجال:

كما امتلأت كتب الفقه والسير والتاريخ الإسلامي بآراء صدرت من رجال في قضايا تتعلق بالمرأة، ولم تعجب كثيرات من النساء، فكن يرفضنها، بل ويعلنّ الرفض على الملأ، ومن ذلك: إقدام عمر على تحديد المهور، فقامت له امرأة وهو على المنبر، وقالت: يا عمر، يعطينا الله، وتحرمنا، أليس الله سبحانه يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [سورة النساء: 20]، فرجع عمر إلى قولها، وقال كلمته المشهورة: أصابت المرأة وأخطأ عمر.

وكم من آراء فقهية بنيت على روايات من السنة النبوية، وردّتها عائشة -رضي الله عنها- سواء في قضايا تتعلق بالمرأة أو بقضايا أخرى، وسبب رد عائشة لها، لأنها ترى أن هذه النصوص تخالف نصوصًا قرآنية، والقرآن هنا هو المقدم في ذلك، وهو ما كتب فيه الإمام الزركشيّ كتابًا كاملًا، بعنوان: الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة.

تقديم رأي المرأة على الرجل في قضايا الأسرة:

ومن القضايا التي رأينا فيها الفقه الإسلامي، يقدّم فيها رأي المرأة وقولها، على قول الرجل، ما نراه في كثير من قضايا الأسرة، وبخاصة الزواج والطلاق، فمن هذه النماذج:

دعواها انقضاء عدتها لتتخلص من حقه في رجوعها إذا كان الطلاق رجعيًا، ودعواها بقاء عدتها لتتمتع بحقوق المطلقة وترثه في حالة وفاته إذا كان طلاقًا رجعيًا، ودعواها الحيض عند طلاقها ليجبر الزوج على ارتجاعها رغم أنفه، ودعواها الوطء عند ثبوت الخلوة لتأخذ صداقها كاملًا إذا طلقها، ودعواها عدم الإنفاق عليها، وبقاء صداقها بذمة الزوج في كثير من الحالات، فهذه نماذج نرى فيها الفقه والفقهاء يقدمون قول المرأة على الرجل، بما فيه مصلحة المرأة.

الأصل أن دية المرأة وشهادتها متساوية مع الرجل:

لقد أجاد الدكتور محمد التاويل -رحمه الله- في الاستدلال والنماذج التي كتبها في الرد على هذه الشبهة، وإن تناول بعض قضايا أثيرت حول ما يتعلق بذكورية الفقه، أو تفضيل الرجل على المرأة في الأحكام الفقهية، ولم يكن تناولها فيها صائبًا، بل جانبه فيها الصواب، مثل قضية: شهادة المرأة، ودية المرأة، وقد حاول الدفاع في هاتين القضيتين بناء على أن شهادتها وديتها نصف الرجل، وهو كلام ليس هو الرأي الوحيد في المسألة، بل هناك آراء أخرى مهمة، وهي الأولى بالترجيح الفقهي.

فالأصل أن شهادة المرأة مساوية تمامًا لشهادة المرأة، والشهادة تعتمد على من يرى الحادث، ومن يحسن تحملها. أما عن دية المرأة فهناك أقوال فقهية بأنها مساوية تمامًا لدية الرجل، وهو قول منسوب لفقيهين هما: أبو بكر الأصم، وإسماعيل بن علية، وقد رجح رأيهما في زماننا علماء وفقهاء كبار، مثل: الدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهما من العلماء المعاصرين.

 

 

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان