انخفاض أعداد طلاب الدراسات العليا.. هذه هي الأسباب!

 

في دولة تعتمد القوى البشرية ميزةً رئيسةً لها، تُظهِر الإحصاءات الرسمية المصرية أن هناك انخفاضًا كبيرًا في عدد الأفراد الذين يحصلون على درجات الدكتوراه والماجستير.

ففي عام 2014، كان إجمالي الحاصلين على درجة الدكتوراه من الجامعات المصرية والأجنبية 95 ألفًا و218 شخصًا. وفي عام 2021، تراجع هذا العدد بنسبة 90.5% حيث انخفضت الأعداد إلى 9 آلاف و63 شخصًا فقط من الذين حصلوا على درجة الدكتوراه.

هذا التراجع الكبير في عدد الحاصلين على درجات عليا يرجع سببه إلى التغييرات في السياسات التعليمية، والضغوط الاقتصادية، فبعضها يتعلق بجودة التعليم وفرص البحث، مما أثّر في الرغبة والإمكانات لدى الطلاب والباحثين في متابعة دراساتهم العليا.

حيث تُظهر البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أهميتها وخطورتها، مما يسلط الضوء على أن الارتباط بين التعليم العالي والشهادات الأكاديمية -خاصة شهادات الدكتوراه- قد تغيَّر، فقد أصبح من الواضح أن حَمْل شهادات الدكتوراه والماجستير لم يعد يضمن آفاقًا واعدة في مجال الدراسة.

وتشهد هذه الفترة تغيّرًا في القيم والاهتمامات، إذ أصبحت شهادات الدكتوراه والماجستير غير مرتبطة بالاحترام والتقدير في المجتمع، كما كانت في السابق، وأصبح التقدير لمطربي المهرجانات!

ولاحظنا أن الكثير يتراجعون عن مواصلة دراستهم في المراحل العليا، وذلك بسبب الصعوبات المالية والضغوط المجتمعية التي يواجهونها، فهناك تحديات كبيرة تقف أمام كل مَن يسعى لمتابعة تعليمه العالي، فبعض الجامعات تفرض مصاريف باهظة للتقديم والدراسة، وبعضها يضع شروطًا صعبة وكثيرة للقبول.

ومن الحقائق المهمة انتشار ظاهرة هجرة حمَلة الماجستير والدكتوراه إلى الخارج، وذلك نتيجة للواقع الحالي في مصر الذي يُظهر عدم الاهتمام الكافي بتلك الفئة، وعدم وجود مكانة مرموقة لهم في المجتمع مقارنةً بالماضي.

حيث يعاني حمَلة الشهادات العليا من غياب الرعاية والدعم الحكومي، ولا تتوافر لهم فرص واضحة للتعيينات الوظيفية، مما يجعل مصيرهم غامضًا ومجهولًا.

شهادات بلا مستقبل

وتتجلّى هذه المشكلة في التقرير الصادر عن الجهاز المركزي للمحاسبات، إذ يكشف التقرير عن انخفاض ملحوظ في عدد الحاصلين على درجة الدكتوراه في مصر، فسُجلت أعداد قليلة جدًّا مقارنةً بالأعوام السابقة.

وفي السابق، كانت الأعداد في ازدياد مستمر، إذ بلغت في عام 2016 نحو 128 ألفًا و700 شخص حاصل على درجة الدكتوراه من الجامعات المصرية والأجنبية، بينما كانت الأعداد في عام 2009 نحو 33 ألفًا و800 خريج، وهذا يُظهر انخفاضًا كبيرًا وملحوظًا، خصوصًا خلال السنوات العشر الأخيرة.

إن هذا الانخفاض يسلط الضوء على أزمة تتطلب اهتمامًا وحلولًا جدية من الحكومة والمعنيين لدعم حمًلة الماجستير والدكتوراه، وإيجاد فرص لهم داخل مصر، وإذا لم يتم التصدي لهذه المشكلة، فقد يستمر تدفق الموارد البشرية المؤهلة إلى الخارج، مما يؤثر سلبًا في التنمية والبحث العلمي بمصر.

ويعود هذا التراجع الكبير في اهتمام الطلاب بالدراسات العليا إلى أن حصولهم على شهادة الدكتوراه لا يضمن لهم فرص التعيين، أو حتى تحسين فرصهم للحصول على وظيفة مثالية بشكل كبير، وهذا ما يثير تساؤلات بين الطلاب عن الأسباب التي تدفعهم إلى متابعة درجات الماجستير والدكتوراه.

وتؤدي هذه المعضلة إلى تراجع رغبة الشباب في تحقيق التفوق الدراسي، في ظل آفاق غير واضحة للمستقبل، وبدلًا من الاستثمار في الشباب يتم تضييع هذه الفرص والقدرات.

“السبوبة” تحكم المنظومة

فمن الضروري خفض تكاليف الدراسات العليا، وفي الماضي كانت تكاليف الحصول على شهادة الدكتوراه ميسَّرة، ولا تُشكل عبئًا كبيرًا على الطلاب. ومع ذلك، ازدادت -الآن- تكاليف الماجستير بشكل كبير، إذ يتعين على الطلاب دفع آلاف الجنيهات سنويًّا للدراسة في الجامعات الحكومية، وهذا يضع ضغطًا ماليًّا كبيرًا على الطلاب.

لذا، يجب أن نأخذ في الاعتبار أهمية توفير فرص حقيقية للطلاب الراغبين في متابعة دراستهم العليا، والاستفادة من إمكاناتهم البحثية، من خلال تحسين فرص التعيين، وتقديم فرص عمل مناسبة، كما يجب أن تكون التكاليف معقولة، لتشجيع الشباب على مواصلة التعليم العالي، والإسهام في تطوير المجتمع.

ويرى البعض أن الجودة أهم من الكمّ، وهذا واقع غير دقيق، فالدولة تتعامل مع الدراسات العليا على أنها مجرد “سبوبة” للجامعات، وتسعى للاستفادة من الطلاب دون توفير تحفيز حقيقي. وتنتشر التُّخمة في بعض التخصصات، بينما تفتقر بعض التخصصات إلى المتقدمين، وكان يجب وضع رؤية واضحة تتناسب مع احتياجات القطاعات المختلفة، ومع ذلك، يبدو أن القادة الحاليين يفتقرون إلى الخطط الفعالة في هذا المجال.

هروب الوافدين

أشهد شخصيًّا العديد من الذين بدؤوا في الدراسات العليا، ولكنهم تراجعوا بسبب الإحباط، فلا يتلقون تحفيزًا من الدولة، سواء في فرص التوظيف أو الرواتب المجزية، كما أن السرقات العلمية لا يعاقَب عليها بشكل جادّ، وبعض رسائل الماجستير والدكتوراه مترجَمة.

ومن المشكلات عدم وجود قواعد وقوانين واضحة بين الطلاب والأساتذة كما ينبغي. لذا، يجب فرض عقوبات صارمة على السرقة العلمية، ونقل الأبحاث دون الإشارة إلى المصدر.

الجشع في المصروفات جعل الطلاب العرب يترددون في الدراسة بمصر، إذ تصل تكلفة التقديم للدكتوراه إلى 5 آلاف دولار وأكثر، بينما تقلّ في دول أخرى مثل لبنان وإيران والهند وماليزيا والسودان. ويعاني الطلاب الوافدون مشكلات أخرى مثل نقص إقامات الدراسة، فالتأشيرات السياحية تكون شهرية، وتجاوز الوقت يستدعي دفع مبالغ إضافية.

كما أن الجامعات المصرية تفرض عقبات معقّدة تُثني بعض الطلاب عن الدراسة هنا، وتجعلهم يُفضلون بلدانًا توفر تسهيلات أفضل.

وهناك أيضًا مَن يسعى لنيل شهادة الدكتوراه أو الماجستير، دون تسجيل رسمي في مصر.

الحقيقة أن دولة بلا استثمار في التعليم، واهتمام بحمَلة الدراسات العليا، لن تنهض من كبوتها بسهولة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان