“بريكس”.. كيان عائلي غامض لتحالف الغاضبين!

الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، والرئيس الصيني شي جين بينغ، ورئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يقفون لالتقاط صورة عائلية لدول البريكس خلال قمتها لعام 2023

 

انتهت أعمال قمة “بريكس” وسط زخم إعلامي واسع، مع الاحتفاء بقبول 3 دول عربية الخميس الماضي، ضمن البلدان الأعضاء الستة المقرر انضمامها إلى “بريكس” مطلع يناير/كانون الثاني 2024. تابع الإعلام العربي أعمال القمة على مدار الساعة، دفعت عوام المصريين إلى الاعتقاد أن غيثا سيسّاقط عليهم من السماء، يغنيهم عن ذل البحث عن الدولار ويُسقطه عن عرشه. بمرور الوقت بدأ الناس يسألون عن عملة “بريكس” الجديدة، ومتى يصل إليهم الغيث، بينما يبشر رئيس وزراء مصر بأن انضمام دولته، سيتيح لها الحصول على قروض ميسَّرة للمشروعات التنموية.

يعكس البون الشاسع بين رؤية الشارع وما يروّج له المسؤولون، المستقبل الغامض لـ”بريكس”، فما زال الكيان الذي صاغ حروفه الأولى “Bric’s” الخبير الاقتصادي بمؤسسة جولدمان ساكس المالية اللورد جيم أونيل، عام 2001، غير واضح المعالم وفقا لمعايير العلاقات الدولية.

تطوع “أونيل” بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، بالدعوة إلى تأسيس تحالف اقتصادي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين والدول غير الغربية، للحفاظ على مصالحها، بوصفها كتلة تمثل 46% من سكان الأرض، وتُنتج 30% من الناتج المحلي العالمي، بينما الدول الصناعية السبع بقيادة واشنطن بها 10% من السكان، وتسيطر على ثلثي الإنتاج العالمي.

تحالف بلا هوية

تبنت الصين فكرة التحالف عام 2007، وعقدت أول قمة لـ”بريكس” أثناء الأزمة المالية 2008، التي أظهرت قدرة اقتصادها على الصمود بمواجهة السقوط المروع الذي أصاب البنوك والبورصات العالمية. جذب الازدهار الاقتصادي، والمال الوفير المتراكم بكميات هائلة، الدول النامية للاستفادة من قروضها السخية. سارعت الصين وروسيا بضم جنوب إفريقيا عام 2010، ليضاف حرف “S” إلى التكتل. أنشأت الصين بنك التنمية برأسمال 100 مليار دولار، وعملت على توسيع عضويته بسداد قيمة الإسهام برأسماله، لبعض الدول -منها مصر حيث حصلت على قرض بمليار دولار- لتسرع بتحويل الكيان الغامض إلى منافس جيو-سياسي للغرب، والمؤسسات التي تدور في فلكه ومنها صندوق النقد والبنك الدوليان.

بعد 15 عاما على القمة الأولى، ما زالت “بريكس” غير معلومة الهوية، ليست منظمة لها أمانة عامة كالاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، ولا يوجد لها مقر أو معاهدة حاكمة لأعمالها، ولا منصة أعمال أو منتدى، وإن كانت مؤسسة رسمية بين الدول، تملك بنكًا محدود الموارد بـ100 مليار دولار، مقره بيجين، منذ 2016.

الهند والجار اللدود

تهتم “بريكس” بتوسيع عضويتها، وفقا لرؤية كل دولة من المؤسسين. قال الرئيس الصيني شي جين بينغ “نتطلع إلى ضم المزيد من البلدان لعائلة بريكس لتجميع حكمتنا وقوتنا وجعل الموازين الدولية أكثر عدلا وإنصافا”. يريد رئيس البرازيل أن تصبح مؤسسة متعددة الأطراف، غير منحازة إلى أي طرف. يقول سيريل رامافوزا رئيس جنوب إفريقيا “بريكس تعني التضامن ونظاما أكثر عدلا يحقق التنمية المستدامة”. تسعى روسيا لفرضها بديلا لمجموعة الدول السبع الكبرى بقيادة الولايات المتحدة، ولتزيح الدولار المهيمن على حركة التجارة الدولية، بينما ترى الهند القائد السابق لدول عدم الانحياز، ضرورة وجودها في قلب الكيان، لتستفيد من الزخم الناجم عنه، ولمراقبة تصرفات جارتها اللدود الصين. تؤمن الهند بأنها إذا أرادت أن تكون مؤثرة، فعليها أن تظل بالداخل، فإن لم تقد الكيان لما تريده، فعلى الأقل توجهه نحو مصالحها.

مواقف متناقضة

أظهرت القمة غضبا جماعيا من واشنطن، يصحبه تناقضات واسعة سطعت عند عرض الصين لضم 30 دولة إلى بريكس. تصدَّر الطلب النقاش بجدول الأعمال لمدة 3 أيام. رأت البرازيل أن زيادة الأعضاء يُضعف تأثير المؤسسين، تحالف رئيسها مع الهند بالموافقة على الانضمام دون جدول زمني، ورفض الطرفان توجه الرئيس بوتين -الذي خشي حضور القمة بشخصه خوفا من القبض عليه بتهمة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا بقرار من المحكمة الجنائية الدولية- إلى توسيع الكيان ودفعه إلى المواجهة السياسية مع الولايات المتحدة والغرب.

تراجع لولا دا سيلفا عن عدائه الصارخ للولايات المتحدة رغم تنديده مرارا بأن يصبح الدولار مرجعية دولية للعملات بدون غطاء ذهبي ومطالبته بعملة “بريكس”. الهند الحليف القوي للولايات المتحدة، لديها مكاسب مع روسيا، وتربح تجاريا من الصين التي بدأت تتعارض سياساتها مع حرية السوق. رغم تحالف جنوب إفريقيا مع الصين، ودفاعها عن موقف بوتين في حربه بأوكرانيا، تظل علاقاتها وثيقة بالغرب اقتصاديا وتكنولوجيا، وتعلم أن سمعة الصين بوصفها قوة اقتصادية رائدة بدأت تتآكل بسرعة مع توقعات بنهاية مؤلمة لازدهارها.

“شي” بعيدا عن القيادة

أدرك رئيس الصين أنه لا يقود “بريكس” عندما تقدَّم غريمه “مودي” رئيس وزراء الهند بمعايير جديدة لقبول عضوية “عائلة بريكس”، فأُعلنت النتيجة بالتوافق على مصالح ذاتية تناسب أطرافا بالكيان. فالسعودية والإمارات وإيران مهمة للصين وروسيا بوصفها من كبرى الدول إنتاجا للنفط، ورغم خلافات العرب والعجم، فلديهم فوائض مالية تؤهلهم لتقديم مساعدات سخية لبنك التنمية متجمد النشاط، عدا أن الصين أكبر مستهلك لثرواتهم وللنفط المنتج لديهم وعالميا. مصر والأرجنتين رغم مرورهما بأزمة مالية طاحنة، بالإضافة إلى إثيوبيا التي تواجه حربا أهلية، فإن مواقعها الاستراتيجية مهمة لــ”عائلة بريكس”.

تسعى الصين وروسيا والهند إلى دعم إثيوبيا لتظل منفذ الدول الثلاث لاقتحام قلب إفريقيا، فلا تهتم بالعداوة الظاهرة مع مصر، بأمور مصيرية كموارد مياه النيل. تحاول البرازيل إنقاذ جارتها الأرجنتين من الإفلاس، الذي يهدد مصالح الصين، والاستقرار بأمريكا اللاتينية.

تجري المنافسة بين الهند والصين بهدوء، تشعله على فترات مناوشات عسكرية عبر الحدود، تأمل الهند أن تحسمه لصالحها بنهاية المطاف. روسيا صاحبة الروبل المتدهور ما زالت تدعو إلى تحويل التجارة بين الدول الأعضاء من الدولار إلى العملات الوطنية، بينما الصين المتجهة نحو الانكماش، لم تذكر أبدا أنها تريد عملة “بريكس” باليوان أو غيرها، وحسمت الهند كلمتها على لسان وزير خارجيتها، بأن عملة “بريكس” فكرة غير موجودة.

وضعت الخلافات صناع السياسات في مأزق، وظهر المسؤولون كالأفيال البيضاء في صالة مليئة بأطباق الخزف، أثناء محاولتهم بناء “تحالف الغاضبين ضد الغرب”. تواجه “بريكس” صعوبة إثبات أهميتها أمام جمهور مغمور، بدعاية فجة عن الكيان في ظروف دولية غير مواتية وصعبة باقتصاد المؤسسين. لذلك صاح مخترع الفكرة اللورد أونيل عقب انتهاء القمة الأخيرة “بريكس لم تحقق أي شيء منذ بدأ الاجتماع لأول مرة”!

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان