ماذا يحمل الذكاء الصناعي للفقراء؟

كان قيام المخترع الأمريكي-البريطاني، هيرام مكسيم، بتصميم أول مدفع رشاش يعمل عن طريق عملية الارتداد في عام 1884 نقطة فاصلة في المعارك التي كانت الدول الأوروبية الكبرى تخوضها في مناطق مختلفة من إفريقيا للسيطرة عليها وإخضاعها. إذ كان مدفع مكسيم، كما أُطلِق عليه، قادرًا للمرة الأولى في التاريخ على إطلاق مئات الطلقات بشكل أتوماتيكي في الدقيقة الواحدة، الأمر الذي أعطى الجيوش الأوروبية ميزة عسكرية هائلة في معاركها مع قبائل إفريقيا وزعمائها.
صحيح أن كثيرًا من أبناء هذه القبائل استبسلوا في الدفاع عن بلادهم ورفضوا الخضوع للمستعمر الأوروبي، وخاضوا معارك شرسة لسنوات طويلة لكي تبقى مجتمعاتهم حرة، لكن كان من المستحيل عليهم الانتصار، بأسلحتهم البدائية، على جيوش بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا التي استخدمت مدافع رشاشة قادرة على حصد أرواح آلاف المقاتلين الأفارقة في ساعات قليلة.
شكّل التفوق التكنولوجي ميزة هائلة للأوروبيين مكنتهم من تحقيق التفوق العسكري، وإخضاع مساحات شاسعة من إفريقيا، وذلك في إطار حملات امتدت من العام 1870 حتى بداية الحرب العالمية الأولى في العام 1914، وهي الحملات التي عُرفت في المراجع التاريخية باسم “التدافع من أجل إفريقيا ” Scramble for Africa في إشارة إلى السباق المحموم بين القوى الاستعمارية الأوروبية للسيطرة على ثروات إفريقيا، وتحقيق الاستفادة القصوى منها، وهو سباق لا يزال مستمرًّا حتى اليوم.
استعمار بشكل جديد
إذا ابتعدنا قليلًا عن مشاهد التاريخ القريب في إفريقيا، وهي مشاهد تكررت بدرجات مختلفة في دول أخرى في آسيا وأمريكا الجنوبية عانت من الاستعمار الأوروبي، وانتقلنا إلى الواقع الذي نعيشه اليوم، سنجد أن الصورة لم تتغير كثيرًا.
ربما اختلفت التفاصيل مع اختلاف العصور، ولكن بقي المنطق نفسه، وهو أن الدول الأقوى التي تمتلك التكنولوجيا الأكثر تقدمًا، تمتلك بالتبعية السلاح الأشد فتكًا، وتصبح قادرة على فرض هيمنتها وسيطرتها وتحقيق مصالحها، وإخضاع الدول الأضعف التي تفتقر إلى القدرات العلمية والتكنولوجية والعسكرية التي تسمح لها بتحدي ما يفرضه الطرف الأقوى عليها من سياسات وقرارات.
ولعل هذه الفجوة الواسعة بين من يمتلك القدرة على تطوير التكنولوجيا ومن يفتقر إلى هذه القدرات تظهر بوضوح عند الحديث عن الذكاء الصناعي، الذي أصبح الآن أحد أهم مجالات التطور التكنولوجي، وساحة منافسة محمومة بين الشركات والدول الكبرى على توظيفه وتطويره في العديد من المجالات.
هذه الفجوة دفعت مجموعة من العلماء ورؤساء شركات عاملة في مجال الذكاء الصناعي، ومن بينهم سام ألتمان، المدير التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي” OPenAI التي قامت بإنتاج برنامج “تشات جي بي تي” ChatGPT، إلى التحذير من المخاطر المحتملة للتطور المستمر في تكنولوجيا الذكاء الصناعي، ونشروا بيانًا يحذرون فيه من هذه المخاطر على موقع مركز “أمان الذكاء الصناعي” في نهاية شهر مايو/أيار من العام الجاري 2023.
من أبرز هذه المخاطر، حسب ما يرى هؤلاء العلماء والمتخصصون، استخدام الذكاء الصناعي في صناعة السلاح بمختلف أنواعه. ويشمل ذلك تطوير الأسلحة التقليدية، مثل الصواريخ الأرضية أو المحمولة جوًّا أو قذائف المدفعية، لتصبح أكثر دقة وأشد فتكًا. كما يشمل توظيف الذكاء الصناعي في تخليق مواد جديدة تُستخدم في تصنيع الأسلحة الكيميائية. هذا علاوة على إمكانية بث معلومات مضللة، باستخدام تكنولوجيا الذكاء الصناعي، لزعزعة استقرار المجتمعات وتقويض اقتصادها.
ويحذر هؤلاء العلماء من أن تركز تكنولوجيا الذكاء الصناعي في أيدي عدد قليل من الدول يجعلها قادرة على فرض إرادتها وسياساتها وقيمها على الدول الأضعف، التي لا تمتلك هذه التكنولوجيا، وبالتالي تفتقر إلى ما توفره للدول التي تطورها من قدرات عسكرية واقتصادية وفنية هائلة.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن الفجوة الواسعة بين الأنظمة التي تملك تكنولوجيا الذكاء الصناعي، ولديها قاعدة علمية تمكنها من تطوير هذه التكنولوجيا وتحسينها باستمرار، والأنظمة العاجزة عن تطوير هذه التكنولوجيا، سيخلق نوعًا من الاستعمار الجديد القائم على التفوق التكنولوجي والعلمي، وهو استعمار يختلف عن الاستعمار بشكله القديم، إذ كانت الدول المستعمرة بحاجة إلى إرسال الأساطيل في البحر أو الجيوش على الأرض للسيطرة على المستعمرات في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وإخضاعها.
غير أنه في المستقبل القريب، ربما تتكفل تكنولوجيا الذكاء الصناعي بعملية السيطرة على الدول الفقيرة الضعيفة وإخضاعها، وبدون الخسائر التي تنتج عن إرسال آلاف الجنود للحروب على أراضي المستعمرات، والاشتباك المباشر مع أبنائها.
الصين والولايات المتحدة تتصدران السباق
تتضح ملامح الصورة أكثر عندما نلقي نظرة على النفقات الهائلة للدول الكبرى في قطاع تكنولوجيا المعلومات، في إطار سباق عنيف لتحقيق التفوق التكنولوجي والاقتصادي، إذ من المتوقع أن يصل حجم الانفاق على قطاع تكنولوجيا المعلومات في العام 2023 إلى 4.6 تريليونات دولار، بزيادة نسبتها 5.5% عن العام 2022، وذلك حسب تقديرات مركز “جارتنر” الأمريكي للأبحاث. وهناك تقديرات أعلى ترفع حجم النفقات في هذا القطاع إلى ما يزيد على 8 تريليونات دولار في العام 2024، وذلك اعتمادًا على مفهوم أوسع للنفقات يشمل ما تنفقه جهات حكومية ومؤسسات غير هادفة للربح.
ويتوقع مركز “إم جي آي” الأمريكي للأبحاث، صاحب هذه التقديرات، أن يصل حجم صناعة التكنولوجيا إلى 11 تريليون دولار في عام 2026. مع ملاحظة أن تكنولوجيا الذكاء الصناعي تحظى بنسبة نمو عالية مقارنة مع باقي الأفرع في صناعة التكنولوجيا.
وتتصدر الولايات المتحدة سباق الإنفاق على صناعة التكنولوجيا بنسبة 35% من حجم النفقات على هذا القطاع عالميًّا. وفي المركز الثاني تأتي القوى الآسيوية، وهي أساسًا الصين واليابان، بنسبة 32% من حجم الإنفاق العالمي. وتأتي القارة الأوروبية في المركز الثالث بنسبة إنفاق تصل إلى 22%. وفي ذيل السباق تأتي إفريقيا بنسبة 5% وأمريكا الجنوبية بنسبة 6%.
من الواضح أن المنافسة الحقيقية على تحقيق التفوق التكنولوجي تجري الآن بين الولايات المتحدة والصين، وتحاول الدول الأوروبية أن تحتفظ بقدم لها في هذا السباق، لكنها تبتعد كثيرًا عن المقدمة التي يحتكرها عملاقا التكنولوجيا، الولايات المتحدة والصين، ولا فرصة في هذا السباق للدول الأضعف والأقل تقدمًا في قارتي إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
فقط استهلاك منتجات التكنولوجيا
لا شك أن هناك جوانب إيجابية في تكنولوجيا الذكاء الصناعي يمكن أن تستفيد منها الدول الفقيرة، مثل تطبيقات الذكاء الصناعي في المجال الطبي أو في التعليم، تمامًا كما استفادت هذه الدول من التطور التكنولوجي في قطاعات أخرى مثل شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة وأجهزة الحاسب.
لكن يظل دور هذه الدول هو مجرد استهلاك بعض ما تقدمه التكنولوجيا، وليس إنتاج التكنولوجيا أو تطوير معدات أو أجهزة تعتمد عليها، ناهيك عن الدخول في سباق التفوق التكنولوجي الذي يضمن لمن يفوز فيه تفوقًا عسكريًّا واقتصاديًّا.
بالنسبة للولايات المتحدة، التي ما زالت تتصدر العالم في هذا السباق، يُشكل قطاع التكنولوجيا القاطرة التي تقود الاقتصاد الأمريكي، إذ يسهم بنحو 10% في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في العام 2022، وهو الأكبر في العالم، ويعمل به نحو 12 مليون أمريكي يُمثلون نحو 8% من إجمالي قوة العمل في الولايات المتحدة. ومن هنا يمكن أن نتفهم حرص الإدارات الأمريكية المتعاقبة الشديد على نمو هذا القطاع وتطويره وزيادة الإنفاق عليه، والاحتفاظ بالتفوق على الصين التي تلاحق الولايات المتحدة في هذا السباق.
ومن ثم، يمكن القول إن التطورات المتلاحقة في تكنولوجيا الذكاء الصناعي قد تحمل مزايا استهلاكية للدول الضعيفة، الأقل تقدمًا في المجال التكنولوجي، لكنها ستؤدي إلى تعميق الفجوة العلمية والاقتصادية بين هذه الدول، والدول الأكثر تقدمًا التي تقف على الضفة الأخرى من نهر التطور التكنولوجي، والتي تواصل فرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على الدول الأضعف في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
ولنا أن نتخيل سيناريو ترفض فيه دولة إفريقية سياسات أو إملاءات الولايات المتحدة أو الصين أو قوى أوروبية. حينها يمكن استخدام أسلحة متطورة باستخدام الذكاء الصناعي ضد هذه الدولة، بشكل يصبح مدفع مكسيم، الذي أسهم في سيطرة الدول الأوروبية على إفريقيا، مجرد سلاح بدائي لا يقارَن بقدرات التدمير الهائلة لأسلحة المستقبل.
ويبقى المَخرج الوحيد لأي دولة ترغب في امتلاك قرارها، والخروج من دائرة الهيمنة والسيطرة التي ترسمها الدول الأكثر تقدمًا، أن تجد لها موطئ قدم في سباق التقدم العلمي والتكنولوجي، وإلا ستبقى مجرد تابع للدول الأقوى، ومجرد مستهلك لما تنتجه من تكنولوجيا. وإذا تمردت، فقد يتم إخضاعها بجيش من الروبوتات، التي يتم تطويرها باستخدام الذكاء الصناعي، على غرار أفلام الخيال العلمي، التي ربما تصبح قريبًا جدًّا حقيقة واقعة.
