في بؤس السياسة عندنا مكايدة لا معارضة

مظاهرات 30 يونيو

 

عشر سنوات على صيف 2013، بكل ما جرى في مصر ولها، تستدعى المزيد من التأمل في حالة الساسة والسياسة لليوم. وهو تأمل لا يخلو من فوائد معممة على مستوى العالم العربي بأسره. وعلى الأقل فإن لدينا ما جرى أيضا في تونس ولها منذ صيف عام 2021.

كلمات لا تنسى

للسفير “يسري”

 

كان للدبلوماسي الراحل “إبراهيم يسري”، رحمه الله توفى في 10 يونيو/حزيران 2019 عن 89 سنة، تجربته وهو في سن متقدمة زهد فيها المناصب والمغانم في محاولة وقف الصدام بين “الإخوان” وبين خصومهم السياسيين “جبهة الانقاذ”. حاول فأطلق مبادرة “جبهة الضمير”، وقادها وعمل من أجلها. لكنه فشل في وقف الانزلاق إلى مصير 30 يونيو/ 3 يوليو 2013 وما تلاه، وكمصير مبادرات أخرى بعضها جاءت من خارج مصر. وبعض تفاصيل هذه المحاولة وعلى لسان الرجل يحفظها أحد فصول كتابي “خريف الإخوان: كيف فشل حكم الجماعة في مصر؟”، الذي طبعه الناشر بالقاهرة نهاية 2014 ولم يوزعه. وأظن أن بين أسباب الغدر بالكتاب ما هو على صلة بموضوع هذا المقال. وأظنه بدا حينها كـ”صوت نشاز” وسط ما يشبه الصوت الواحد العارم من كتب وكتابات تسب وتقذف وتشيطن وتحرض، ولا يهمها محاولة الاستقصاء والفهم والخروج من الاستقطاب إلى نقد يشمل “الإخوان”، ويتجاوزهم إلى غيرهم.

وأعود إلى كلمات للسفير “يسرى” ظل يرددها حتى زيارتي الأخيرة لمنزله قبل وفاته بأيام. كان يحاول جاهدا لفت الانتباه إلى ما اعتبره في شهادته بالكتاب “سرطانا سياسيا يتمثل في غلبة المصالح الشخصية والكراهية والحقد وانعدام المروءة”، فيقول ويشدد على ما يراه أخطر آفات السياسة والسياسيين في بلادنا، وهما آفتا: ممارسة السياسة بالعواطف من كراهية ومحبة.. والافتقاد إلى خيار التفاوض وامتلاك آلياته وأدواته. والرجل كان لنحو أربعة عقود دبلوماسيا في الخارجية المصرية متميزا بخبرات قانونية قادته إلى مواقع التأثير والفعل بالفريق المصري لمفاوضات طابا وغيرها، ولتولي مسؤولية مساعد وزير الخارجية للقانون الدولي. واختتم مساره المهني هذا سفيرا للجزائر في سنوات مهمة عاصفة بين نهاية عقدي الثمانينيات والتسعينيات قادت إلى الحرب الأهلية والإرهاب و”العشرية السوداء”. ثم عاد لمصر ليستهلك نحو عقدين ويزيد قبل 2013 في النقاشات مع طيف واسع من نخب البلد، وبعدما برز كبطل وطني مع قضية وقف تصدير الغاز لتل أبيب أمام قضاء مجلس الدولة.

 

الانفتاح الأهم

للمجال العام وأمام السياسة

ومن خبرة السفير “يسري” إلى السؤال: ماذا تفيد خبرة ما جرى لمصر وتونس على الأقل؟ وكانا أكثر المجتمعات العربية نضجا وقابلية وفرصا، لاعتبارات موضوعية مجتمعية وثقافية وتاريخية، لإنجاح التغيير وأهداف الموجة الأولى من الانتفاضات والثورات الشعبية العربية في القرن الحادي والعشرين. وبالتالي مغادرة مربع قيود الاستعباد والاستبداد والفساد والتبعية والإفقار إلى آفاق المواطنة والديمقراطية والحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية والاستقلال الفعلي.

انطلاقا من 2011 وفي مصر على مدى نحو العامين ونصف العام وبالنسبة لتونس لنحو عشر سنوات، انفتح المجال العام للفاعلين السياسيين وأمام المجتمع المدني ولاهتمام المواطنين بالسياسة والشأن العام ولممارسة حقوق وحريات التنظيم والكلام والتظاهر والاحتجاج والمعارضة والترشح والانتخاب مع فرص التداول السلمي للسلطة. وهذا على نحو غير مسبوق في تاريخ البلدين، وبخاصة بعد جلاء قوات الاستعمار في العقد الخامس من القرن العشرين أو في ظل ما يسمى بـ “الدولة الوطنية”.

وأعتقد، والشاهد معي جيلي الذي ولد مع بزوغ هذه “الدولة الوطنية” وعاصر فترات انفتاح أو سماح ما تحت لافتات كـ”التصحيح ” و”المراجعة” أو مع الانتقال من رئيس للدولة لآخر، أن المساحة بالفعل كانت غير مسبوقة في السنوات التالية لبداية عام 2011 أمام الحركة والبناء والفعل في حقل السياسة وأمام المواطنين ونخبة كانت آخذة في الاتساع والتنوع، ونسبيا عما قبل الانتفاضات والثورات. وأيضا أصبحت أكثر قربا وقدرة باتساعها وتنوعها هذا من الوصول إلى “الدولة”، وأخذها في طريق السلطات المنتخبة دوريا والمؤسسات ونحو رقابة المواطنين والمجتمع المدني والصحافة.

ولم يكن السياق إيجابيا ومواتيا تماما لاعتبارات داخلية وخارجية عديدة، وبعضها يتعلق بإرث ما قبل الانتفاضات والثورات. وهي موروثات تشمل قوة وسطوة نزعات الشخصنة والأنانية والزعاماتية والافتقاد للثقافة الديمقراطية والداخلية منها، وكذا هذا الكمون تحت السطح لسلبيات عصبية القبيلة والقبائل المتناحرة وثنائية المديح والهجاء. وهكذا الحال حتى خلف لافتات بنيات حديثة كالأحزاب والنقابات والجمعيات وغيرها. وبالطبع العواقب السلبية لإدارة السياسة بالمشاعر والعواطف (كراهية وحب). وكل هذا وغيره لم تنج منها (المعارضات/ جمع معارضة) السابقة على الثورات والانتفاضات، أو حتى تلك التي أطلقت على نفسها أو أطلقوا عليها “قوى جديدة”.

لكن من باستطاعته وعلى ضوء تجارب المجتمعات الأخرى الزعم أن هذا المستوى من التغيير المأمول بعد الأحداث الشعبية العظام، والذي كنا نتجه إليه، ولو بصعوبة وبانحرافات عن المسار، يجرى في “صوب” معقمة خالية من الميكروبات والفيروسات المعيقة للإقلاع.

 

إهدار الفرص

لاعتبارات عديدة، كالافتقاد للمواطنة وتصحير الحياة السياسية وتجريم المعارضة المنظمة وحصارها وقمع الحريات وانهيار التعليم وإهمال إشاعة التفكير العلمي الحر ومحاربته وتزايد انفصال الليبراليين واليساريين عن القوى الاجتماعية التي يدعون تمثيلها ويرفعون شعارات لصالحها، تقدم التنظيمان الأكثر شعبية بين الإسلاميين ليشاركا في الحكم قوى النظام الذي ثار عليه الناس في البلدين. وفي كل الأحوال، لم يكن لا لجماعة الإخوان بمصر أو لحزب حركة النهضة بتونس أن يحصدا أغلبية مطلقة. فقط كانا بمثابة” الحزب الأول” في الاستحقاقات الانتخابية أو معظمها. والمؤكد أن لكليهما أخطاء هنا وهناك وبدرجات متفاوتة بين التجربتين/البلدين، كما لخصومهما.

لكنهما وفق الاتجاه العام للأحداث كانا يخسران من رصيديهما الشعبي والانتخابي، وأيضا من القدرة على التأثير في السياسات العامة وجهاز الدولة وخياراته. بل وأصبحا مع مرور الوقت مكشوفين أمام الطبقات الأكثر فقرا وهشاشة والطبقة الوسطى جراء تبني سياسات اقتصادية اجتماعية لا تختلف كثيرا عما كان قبل الانتفاضات والثورات، ولطابعهما المحافظ في سياق يتطلب تغييرات ثورية جذرية. والأهم أنه كان أيضا أمام معارضيهما في البلدين أو المستقلين عنهما فكريا وسياسيا فرص البناء والمراكمة على أصعدة العمل السياسي والتنظيمي والنقابي والثقافي وغيرها. وباختصار كان بإمكانهما استغلال بيئة الانفتاح/ الحريات/ الحقوق غير المسبوقة والآخذة في الاتساع والتجذر بالمجتمع من أجل بناء معارضة قوية مؤثرة. معارضة منظمة جماهيرية وثيقة الصلة بقواها الاجتماعية، وبسبيلها خلال سنوات معدودة في الوصول إلى مؤسسات الدولة والحكم وعبر أدوات ديمقراطية عديدة، نهاية بصندوق الانتخابات.

ولسنا في حاجة للاستفاضة في كيف أصبحت هذه البيئة المواتية للبناء والعمل بين الناس أصبحت شبه مفتقدة بمصر بينما تتآكل وتتلاشى في تونس. وأظن أن على من أضاع الفرصة على نفسه والمجتمع في البلدين أن يسأل ويتأمل في الفارق بين المعارضة وبنائها منظمة وجماهيرية ومؤثرة وبتغيير الذهنيات والثقافة العامة والسياسية وبين الانسياق وراء المكايدة والتحريض، والاكتفاء بإخراج اللسان لإغاظة خصومك السياسيين ليس إلا؟ وهذا بدلا من العمل والتعب لبناء معارضة بين الناس تنجز ديمقراطيا أهدافها، وتتغلب في انتخابات حرة على خصومها.

 

فارق كبير بين

المعارضة والمكايدة

أليس ما حدث في مصر وتونس وغيرهما، وانسياقا لممارسة السياسة بالعواطف وبالموروثات السلبية لما قبل الانتفاضات والثورات، هو “المكايدة”؟ وبالطبع الفارق كبير بين المكايدة والمعارضة. بل يمكن أن نرى فيما يحدث بين رموز معارضي الإخوان والنهضة في البلدين اليوم أيضا نوعا من “المكايدة البينية”، وحتى بين من يفترض أنهم حلفاء أو كانوا وفي أوضاع هي الآن أسوأ وأضعف أمام السلطة السياسية عما كانوا عليه أمام الإخوان.

ولعل في عدم التمييز بين المعارضة والمكايدة أحد أبعاد بؤس السياسة عندنا. وبصراحة إذا لم نتماثل للشفاء من “المكايدة”، ونتخلى عن المراوحة بين الهجاء/المديح، فسنكرر أخطاءنا الكارثية هذه غدا وبعد غد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان