27 مليار دولار عجز دولاري بالجهاز المصرفي المصري

يواصل النظام المصري تحطيم الأرقام القياسية الاقتصادية، حيث لم يكتف بالرقم غير المسبوق للدين الخارجي الذي تخطّى 165 مليار دولار حتى مارس/ آذار الماضي، ورقم الدين العام الداخلي الذي تخطّى 5 تريليونات جنيه ولم يتم إعلانه منذ منتصف عام 2020 أي منذ ثلاث سنوات، ورقم العجز النقدي في الموازنة الذي بلغ 629 مليار جنيه في العام المالي الأخير، ونسبة التضخم حسب البنك المركزي التي بلغت 41% في شهر يونيو/ حزيران الماضي؛ بل أضاف إلى ذلك تحقيق رقم غير مسبوق تاريخيا للعجز بصافي الأصول والالتزامات الأجنبية في الجهاز المصرفي، بقيمة 27.099 مليار دولار في يونيو/ حزيران الماضي.
ولكن ما هو المقصود بصافي الأصول الأجنبية بالبنوك الذي يمثل الفرق بين الأصول والالتزامات الأجنبية؟
جرت العادة بالبنوك على أن يكون لديها أصول بالنقد الأجنبي تتوزع بين: أصول نقدية بعملات أجنبية، واستثمارات في أوراق مالية أجنبية أو استثمارات في أذون خزانة وسندات أجنبية، وأرصدة بعُملات أجنبية تملكها لدى البنوك بالخارج، وكذلك إقراضها للعملاء بعملات أجنبية.
أما الالتزامات على البنوك بالعملات الأجنبية فتتوزع بين: التزامات اتجاه بنوك بالخارج، وقروض طويلة الأجل بعملات أجنبية اقترضتها من جهات خارجية سواء من بنوك أو مؤسسات مالية، وودائع بعملات أجنبية لديها مملوكة لأجانب.
24 عاما للفائض الدولاري بالبنوك
وعندما تكون الأصول الأجنبية أعلى من الالتزامات يكون لدى الدولة فائض، وعندما تكون الالتزامات الأجنبية أكبر من الأصول يكون لديها عجز، ومن الأفضل أن يكون لديها فائض، حتى تستطيع القيام بعمليات التمويل والاستثمار بالعملات الأجنبية وتسهيل عمليات الاستيراد.
وتاريخيًّا ظل الجهاز المصرفي الذي يضم البنك المركزي المصري وكافة البنوك العاملة بمصر، يحقق فائضا في صافي الأصول الأجنبية بشكل متواصل، منذ بداية عام 1990 حتى سبتمبر/ أيلول 2015، أي مدة 24 عاما متواصلة.
لكن نقص الدولار عام 2015 استنفد ما لدى الجهاز المصرفي من عملات أجنبية ليتحول الفائض إلى عجز، واستمر ذلك العجز مدة 18 شهرا متواصلة، تم خلالها عقد اتفاق لبرنامج إصلاح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، لتتراجع قيمة العجز تدريجيًّا بعد الاتفاق مع الصندوق، حتى انتهي العجز في إبريل/ نيسان 2017 أي بعد الاتفاق مع الصندوق بنحو ستة أشهر فقط.
ثم عاد العجز الدولاري بالبنوك التجارية في مارس/ آذار 2020 مع أزمة كورونا، واستمر حتى أغسطس/ آب من نفس العام، ليتحول مرة أخرى لتحقيق فائض خاصة مع قروض صندوق النقد الدولي لمواجهة آثار كورونا، لكن العجز الدولاري عاد مرة أخرى منذ يوليو/ تموز 2021 إلى البنوك التجارية، أي قبل نشوب الحرب الروسية الأوكرانية بسبعة أشهر.
واستمر ذلك العجز حتى بيانات يونيو/ حزيران الماضي أي مدة 24 شهرا متواصلة، ولحق البنك المركزي بالبنوك التجارية في العجز الدولاري منذ مارس/ آذار 2022 حتى بيانات يونيو الماضي أي مدة 16 شهرا، وهكذا أصبح الجهاز المصرفي المصري الذي يضم البنك المركزي والبنوك العاملة بمصر يعاني عجزا دولاريا بلغ في يونيو 27.099 مليار دولار هي الفرق بين الأصول من العملات الأجنبية البالغة 46.549 مليار دولار، والالتزامات بالعُملات الأجنبية البالغة 73.649 مليار دولار.
انخفاض بـ23 مليارا في فترة المجلس العسكري
وتتضمن رحلة رقم صافي الأصول الأجنبية التي اتسمت بالفائض المستمر منذ 1991، تصاعد هذا الفائض بعهد مبارك حتى بلغ 54.8 مليار دولار في سبتمبر/ أيلول 2010، وتسلم المجلس العسكري فائضا بقيمة 48.9 مليار دولار، وسلمه للدكتور محمد مرسي بقيمة 26 مليار دولار أي ناقصا بحوالي 23 مليار دولار.
وترك الدكتور مرسي الفائض مستمرا بقيمة 20.5 مليار دولار، وشهد تذبذبا خلال السنوات العشر الماضية حتى تحول إلى عجز مستمر منذ عامين، أي أنه قد خسر خلال العهد الحالي 47.6 مليار دولار منذ تسلّمه منتصف عام 2013، رغم ما حصل عليه النظام الحالي من معونات سخية وقروض.
وذلك بعد أن استمر صافي الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفي، يحقق فائضا خلال الأزمة المالية العالمية، وخلال ثورة الخامس والعشرين من يناير، وطوال شهور تولي الدكتور محمد مرسي الاثني عشر رغم ما واجهه من صعوبات وإحجام عن مساعدته من قبل الكثيرين بالخليج.
والمهم هو أثر ذلك العجز الدولاري بالجهاز المصرفي في السوق، المشلولة حركته حاليا، حيث إن تباطؤ البنوك في تدبير احتياجات استيراد المصانع للمواد الخام ومستلزمات الإنتاج، انعكس على انخفاض الواردات وكذلك الصادرات، وخروج الكثير من المستثمرين المصريين للاستثمار بالخارج، وتأخر السلطات المصرية في دفع مستحقات شركات البترول الأجنبية؛ وهو ما كان له أثره في انتظام استثماراتها إنتاجها، وصعوبة تدبير الحكومة للاحتياجات الأساسية من المواد الغذائية خاصة القمح والوقود والتبغ وغيرها؛ مما نجمت عنه اختناقات في العديد من السلع.
تراجع العجز بعد 2016 لكنه يتزايد حاليا
وقد يتساءل البعض إذا كانت مصر قد مرت بنفس مشكلة نقص الدولار عام 2015، فما هو الفرق بين ذلك والمشكلة الحالية التي بدأت منذ يوليو/ تموز 2021؟
الفرق كبير، ففي أعقاب الاتفاق مع الصندوق عام 2016 استفادت الحكومة من أكثر من وسيلة لسد العجز الدولاري، منها قروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات مالية إقليمية، وقروض من دول خليجية وأجنبية، وطرح سندات بالأسواق الدولية، وحضور كبير للأموال الساخنة من الخارج للاستفادة من ارتفاع سعر الفائدة للجنيه المصري، ولذلك تراجع العجز تدريجيا بعد الاتفاق مع الصندوق حتى تلاشى تماما بعد مرور ستة أشهر من الاتفاق.
لكن في هذه المرة وبعد مرور ستة أشهر على الاتفاق الجديد مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أخذ العجز الدولاري بالجهاز المصرفي اتجاها معاكسا، فبعد أن كان قد بلغ 22 مليار دولار في الشهر السابق على الاتفاق مع الصندوق، ها هو يزيد بنحو خمس مليارات من الدولارات بعد مرور ستة أشهر على الاتفاق، منها 2.66 مليار دولار في الشهر الأخير.
والأهم من ذلك ضبابية الرؤية حول مصير ذلك العجز في الشهور المقبلة، فحتى إذا استأنف الصندوق أقساط قرضه الجديد فإن القسط نصف السنوي يقل عن 350 مليون دولار، وحصيلة بيع حصص بشركات بقيمة 1.9 مليار دولار لم تدخل الخزانة المصرية بعد، ولا يتوقع إقبال الأجانب على شهادات الإيداع الدولاري التي طرحتها البنوك الحكومية المصرية، لوجود أدوات دين حكومية مصرية بفائدة أعلى وآجال قصيرة، ولكنها ذات نتيجة سلبية بسبب ارتفاع معدل التضخم.
وها هي حصيلة الصادرات تتراجع في الشهور الخمسة الأولى من العام الحالي وخاصة حصيلة صادرات الغاز الطبيعي، ونفس التراجع لحصيلة تحويلات المصريين بالخارج والاستثمار الأجنبي المباشر، وضعف القدرة على طرح سندات بالخارج بعد خفض وكالات التصنيف الائتماني تصنيف مصر.
وبالإضافة إلى الحاجة إلى كمّ ضخم من الدولارات لسدّ العجز لدى الجهاز المصرفي، فهناك احتياج إلى كمّ آخر لسداد أقساط وفوائد الدين الخارجي، وكذلك لدفع تكلفة الواردات الأساسية من الغذاء والوقود، في سوق دولية ارتفعت بها أسعار الحبوب، بعد انسحاب روسيا من مبادرة تصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود، وارتفاع أسعار السكر واستمرار ارتفاع أسعار النفط دوليا، في بلد يستورد كميات ضخمة من البنزين والبوتاغاز والسولار ومؤخرا المازوت.
وقد يقول قائل إن لدى مصر احتياطيًّا من النقد الأجنبي تخطّى ثلاثين مليار دولار، لكن يبدو أن هؤلاء لا يعرفون أن ذلك الاحتياطي محسوب ضمن أصول البنك المركزي، التي تقلّ عن قيمة التزاماته بالعملات الأجنبية، فالعجز الدولاري بالجهاز المصرفي البالغ 27.099 مليار دولار موزع بين: عجز بقيمة 17.1 مليار دولار في البنوك التجارية وحوالي 10 مليارات دولار في البنك المركزي.
وهذا العجز الدولاري لدى البنك المركزي يمثل الفرق بين الأصول الأجنبية البالغة حوالي 34 مليار دولار، أي ما لديه من احتياطيات من العملات الأجنبية، والالتزامات من العملات الأجنبية البالغة حوالي 44 مليار دولار!
