“الظاهرة الترمبية” وأنياب الديمقراطية الأمريكية

“إن الديمقراطية تُعَد أسوأ أنظمة الحكم، إلا عندما تُقارن بالأنظمة الأخرى”.
تلك عبارة منسوبة، لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينسون تشرشل، وتبدو متسقة مع أساليبه الخطابية، من حيث جمعها بين الحكمة العميقة، والسخرية اللاذعة، على غرار ما قاله، بعد انتصار الحلفاء على المحور، في الحرب العالمية الثانية “التاريخ سيكون لطيفًا معي، فأنا أنوي كتابته”، أو عندما قيل له، إذ كان إزاء قبر “هنا يرقد السياسي الشريف فلان”، فرَدَّ من فوره “هل دفنتم شخصين معًا؟ لا يوجد سياسي شريف”.
إن أحدًا لا يستطيع أن يدّعي خلو الديمقراطية من النقص، أو يدفع بأنها ذروة الحكمة، ذلك أنها نتاج عقل بشري، لا يحيط بكل شيء علمًا، لكنها مهما يكن بها من مثالب، ومهما يعتريها من عيوب، تظل النظام السياسي الأمثل، ذلك لقدرتها على تصويب أخطائها، وتجاوز زلاتها، عبر الانصياع إلى إرادة الإنسان، الذي اختصه الخالق عز وجل، بميزة القدرة على التعلم من أخطاء الماضي، إلى الحد الذي يدفع بعض هواة التعريفات، إلى القول بأنه “حيوان له تاريخ”.
نعم، حيوان له تاريخ، وليس يتعلم من خبراته الذاتية فقط، بل من خبرات بني جلدته كذلك، ويؤسس عليها في عملية تطور وتطوير تراكمية، عرف أسلافنا البدائيون، بمقتضاها، إشعال النيران، وتناقلوا تلك المعرفة، جيلًا بعد جيل، حتى سافرت البشرية، من عصور الجمع والالتقاط، إلى الرعي، فصناعة الأسلحة، فالصيد، فالزراعة، وصولًا إلى الثورة الصناعية، التي نرى من تجلياتها الراهنة: الذكاء الاصطناعي، ولا نستطيع التنبؤ بما ستبلغه غدًا.
التعلم من دروس التاريخ، وحده، هو الذي بوأ الإنسان مكانته، على الأرض، وبهذه الميزة صار سيد المخلوقات، الذي يستأنس الخيول، ويربي الماشية، بل ويأسر الأسود فيأتي بها إلى السيرك، فتقفز بأمره من بين حلقات النيران، وهو يلوّح لها بكرباجه مزهوًا منتفشًا.
غير أن هذا الأمر يبدو نظريًّا، إلى حد كبير، إذا جربناه خارج إطار العلوم التطبيقية، وفحصنا مصداقيته في مجال علم الاجتماع السياسي، فالبشرية في هذا المضمار، تكرر أخطاءها، وقد تفعل ذلك بمحض إرادتها، كما لو كانت تستمتع بالأمر، وهو ما يتجلى الآن، في الولايات المتحدة الأمريكية، مع استطلاعات الرأي، التي تكشف عن ارتفاع شعبية الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي يصر على خوض معركة الانتخابات الرئاسية، العام المقبل، أملًا في العودة إلى البيت الأبيض، رغم الحزمة الهائلة من الاتهامات التي تلاحقه، ومنها اتهامات فيها اعتداءات فظة، على منظومة الديمقراطية في البلاد، التي طالما تباهت بأنها “أرض الأحلام”.
الظاهرة “الترمبية”
منذ دخل مصطلح “الترمبية” أدبيات الخطاب السياسي، عام 2016، بعد فوز الرئيس الأمريكي السابق، بانتخابات الحزب الجمهوري، ومن ثم دخوله المكتب البيضاوي، في مفاجأة مدوية، على حساب المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، والعالم يقف حائرًا أمام الظاهرة، ولا يستطيع تأويل تجلياتها.
المؤكد أن ارتفاع شعبية ترمب، الذي مثل أمام سلطات تحقيق ولاية فرجينيا، أخيرًا، جراء اتهامه بمحاولة التدخل في نتيجة، أو بمفردة أدق: تزوير الانتخابات الفائتة، التي خسرها لمصلحة الرئيس الحالي بايدن.. المؤكد أنه يُمثل مفارقة، تدفع المنطق إلى أن يجري عاريًا، في ميدان رمسيس، إبان ذروة الازدحام، وقد يقفز من كوبري قصر النيل، إذا عرف أن نشر صورة “المتهم” الجنائية، أعقبها فورًا تلقيه تبرعات، تزيد على 7 ملايين دولار.
شعبية الديكتاتور
لماذا ترتفع شعبية الرجل الشعبوي الديماغوغي، ذي الخطاب المتطرف، والذي لم يُبدِ دعمًا أو حتى محض تأييد للديمقراطية على المستويين الداخلي والخارجي معًا؟
مفارقة كهذه، قد تُفهم في ميلودراما عبثيات الواقع السياسي العربي، حيث الجمهور محض متفرجين، يصفقون في بلاهة للبطل الأول، الواحد بغير شريك، فأولئك لم يتهجوا أبجديات الحرية السياسية، ولم يعرفوا الانتخاب المباشر، إلا في ومضة تاريخية سرعان ما انطفأت، إثر الانقضاض على أحلام الربيع العربي، وهو الأمر الذي يدفع قطاعًا كبيرًا منهم، إلى التحسر على أيام الديكتاتوريات التي أسقطها.
غير أن فهمها في الولايات المتحدة، يبقى مُستغلقًا صعبًا، إذ ليس مستساغًا أن يؤثر خطاب شعبوي، غوغائي، من قِبل رجل صاخب، في شعب اختبر الممارسة السياسية بعمق، فيستميل مشاعره إلى درجة أن نسبة ليست هينة من الناخبين الجمهوريين تؤيده، في تضحية مجانية بكفاح تاريخي، امتد منذ الحرب الأهلية، التي انتهت بعد أربع سنوات دامية، عام 1865، بإعلان “لينكولن” لتحرير العبيد، مرورًا بنضال مارتن لوثر كينغ، وصولًا إلى ارتقاء باراك أوباما، سدة الرئاسة، بصفته أول رئيس ذي أصول إفريقية.
إن ترمب الذي ذاع صيته، بوصفه رجل أعمال مغرورًا، يصطاد المليارات من التسويق العقاري، ثم دخل “بيزنس المصارعة الحرة”، تلك اللعبة غير الأوليمبية الفظة، أشبه ما يكون بفتوة غاشم، يريد الاستيلاء على الولايات المتحدة، عبر رفع “النبّوت” في وجه معارضيه، لا يحتاج دليلًا على همجيته وبربريته وجاهلية روحه.
ارتفاع شعبية رجل كهذا، يدق ناقوس الخطر، من صعود الحكم الشعبوي الديماغوغي، الذي يتبني مقولات كراهية الآخر، ويستدعي خطاب المؤامرات الخارجية، على طريقة “مكارثي” النائب الجمهوري، الذي وقف في الكونغرس عام 1954، ليحذر من سيطرة “عملاء الشيوعية” على مناصب مهمة، في مؤسسات الدولة المهمة، وعلى رأسها وزارة الخارجية، مما أسفر عن خروج أفاعي التطرف من جحورها، حتى زُجَّ بالآلاف في غياهب السجون، إلى درجة أن تشارلي شابلن، وأينشتاين، كانوا من المتهمين.
صحيح أن فرص ترشح ترمب، أو بالأحرى إمكانية ترشحه، تبدو واهنة جدًّا، لكن نجوميته على خشبة المسرح السياسي الأمريكي، تبقى خطيرة لذاتها، وقد تحيلنا إلى الشطر الأول من مقولة تشرشل مجددًا “إن الديمقراطية تُعَد أسوأ أنظمة الحكم”.. والظاهر أن أسوأ سيئاتها، هي أنها لا تتعلم من تاريخها، حتى في البلاد التي يتشدق سياسيوها ومواطنوها، بأنها علّمت البشرية مبادئ الحرية، وقادت قافلتها في القرن العشرين.
على أن المنظومة السياسية والقانونية الأمريكية، قد توافقت على الأرجح، على ألا يبلغ ترمب محطة الانتخابات المقبلة، ذلك أن النظام قد أُسّس منذ بداياته، على معرفة عميقة، بأنْ لا شيء أخطر من استفادة ذوي النزعات الديماغوغية، من أي أوضاع استثنائية، ولذلك عمدوا إلى الفصل بين السلطات، فصلًا حاسمًا، فإذا بالمنظومة القضائية، تحمي المجتمع، من الانزلاق إلى كارثة، ما يعيدنا إلى مقولة الرئيس السادات المضحكة “الديمقراطية لها أنياب”، التي يمكن تأويلها بأن الفصل بين السلطات، من تلك الأنياب، كما تحيلنا ثانيةً، إلى الشطر الثاني من مقولة تشرشل، الذي يؤكد أن الديمقراطية رغم سيئاتها، هي الأفضل على الإطلاق.
