لماذا ابتسم “ستالين” عندما سقط “اللص العصامي” من السماء؟

بينما كانت سيدة روسية تتريض مع رفيقاتها في شوارع مدينة “ليينجراد” السوفيتية اعترضها مراهق في الثامنة عشر من العمر، وقام بسرقتها بعد أن حاول خنقها في المدينة التي ظلت عاصمة روسيا القيصرية لنحو قرنين من الزمان، وكانت تعرف بـ”سان بطرسبرغ”.
استعملت المحكمة الرأفة، وحكمت على الفتى المشاغب بالسجن مع إيقاف التنفيذ، لكنه ارتكب لاحقًا عمليات سطو أخرى على مدى أشهر عدة، ليحُكم عليه عام 1981 بالسجن 13 سنة بعد تكرار سرقاته التي كانت كفيلة بحبسه دون تهاون.
لم يكن هناك من يجرؤ في روسيا حتى أسبوع مضى على نشر صورة للص المدان، وهو يرتدي ملابس السجون الروسية، رغم أنه قضى فيها تسع سنوات محكومًا في قضية سرقة، لم تكن الوحيدة في سجله الجنائي بمسقط رأسه في مدينة “سان بطرسبورج” الروسية.
أُطلق سراح الشاب ذو السجل الجنائي عام 1990، بعد سنوات خلف الأسوار ليخرج وفي ذهنه ألا يعود إلى القضبان الحديدية أبدًا، مهما أثار من مشاكل.
خرج السجين بينما كان الاتحاد السوفيتي ينهار، وعاد لمدينة “لينيجراد” اسمها القديم “سان بطرسبرغ”، وأضحت بلاد القياصرة في منعطف تحول يبتعد بها وأهلها عن نهج اقتصاد الدولة اليسارية اشتراكيًا كان أو شيوعيًا.
اكتشف الشاب خارج السجن أنه يمكن أن يحصل على المال من الآخرين دون سرقته منهم، فبدأ في تجهيز “النقانق” وبيعها للمحلات والمطاعم، وفي ظل شخصية مندفعة وجريئة استطاع أن يزيح منافسين كثيرين من طريقه، مستعينا بـ”أصدقاء الجريمة” لتكبر تجارته وطموحه.
النشاط البيعي لم يكن كافيًا أو مرضيًا له، حيث رغب في الامتلاك، والتحول من لص إلى عصامي، وقد فعل، فبعد أن جمع مالًا يكفيه اشترى حصة في إحدى سلاسل المتاجر الكبرى، وفي عام 1995 كانت النقلة الأهم في حياته، وهي افتتاح مطعم ليكون نشاطه موزعًا بين تصنيع “النقانق” وبيعها ثم تقديمها مطهوة.
في البداية كان رجل الأعمال المبتدئ راغبًا في لفت الأنظار لمطعمه بأي طريقه، فاستخدم راقصات و”فتيات ليل” لإغراء الزبائن، لكن بضاعته راجت في مجتمع متشوق للنمط الاستهلاكي الذي يصاحب اقتصاد “السوق الحر”، بعد عقود من قيود الدولة، فاستغنى عن الراقصات والمتعريات، توفيرًا للمال، ولأن وجودهن لم يكن ملائمًا لتجمعات الطبقة الجديدة من رجال الأعمال والسياسيين الذين اجتذبهم المطعم الجديد، الذي كان حريصًا على توثيق علاقته بهم.
المطعم العائم
كان افتتاح المطعم العائم تحولًا حادًا في حياة السجين السابق، فقد أتاح له التعرف إلى صفوة المجتمع في “سان بطرسبرغ”، عاصمة الجريمة والثقافة في آن واحد، فبينما تضم المدينة قواعد العصابات والمافيا وأجهزة الأمن الروسية، فإنها مقر متحف “هيربيتاج” المهم للفنون، وقصر الشتاء المقر الملكي السابق، وعديد من الآثار المهمة.
وبخليط معقد من أهل الفن والجريمة والساسة الجدد، كان رواد المطعم تعبيرًا عن طبقات جديدة تشكلت في دولة عظمى ألقت بأردية الشيوعية بعد عقود، وتتطلع إلى ما بعدها، متمسحة في أعتاب رأسمالية الغرب.
كان رئيس البلدية، “أناتولي سوبتشاك”، من مرتادي المطعم الذي ينطلق بزبائنه عبر فرعي دلتا نهر “نيفا”، وكذلك كان نائبه “فلاديمير بوتين” العائد من مهمة استخبارية في “ألمانيا الشرقية”، وكان الأخير يخطو بثبات في عالم السياسة خطوات واثقة للأمام ولأعلى.
وصل “فلاديمير بوتين” إلى قمة السلطة في موسكو رئيسًا لجمهورية روسيا الاتحادية التي ورثت الاتحاد السوفيتي بعد تفككه، وظل معجبًا بالمطعم العائم، يدعو فيه ضيوفه عندما يستقبلهم في مسقط رأسه، وكانت فرصة لصاحب المطعم أن يتبع صديقه الذي أصبح رئيسًا، ويدخل إلى قصر الكرملين من باب إعداد طعام الرئيس وتجهيزه، ليعرف بـ”طباخ بوتين”.
لم يكن “يفجيني بريغوجين” طبيبًا، ولم يكمل تعليمه أصلًا، لكنه ظهر لأول مرة -منذ سنوات- بمعطف أبيض أنيق في قصر الكرملين خلف الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، وهو يشرف على تقديم الطعام لحاكم “القصر الأحمر”.
لم يقنع الطباخ بأن يكون طاهيًا للطعام وموردًا لقصر الرئاسة فقط، ولكنه أراد أن يشارك في “مطبخ” السياسة الكبير، وبعقود مليونية ثم مليارية، توغل الرجل في علاقات تجارية مع الجيش الروسي، بعد أن أصبح المتعهد الأول لتقديم الطعام، ومواد التموين لوحدات القوات الروسية.
لم يكن للسجين السابق، والطباخ، والمورد، علاقة سياسية رسمية بالكرملين، فلا هو مساعد ولا مستشار، ولا هو ما دون ذلك من مواضع حكومية تتيح له التحدث من موقع السلطة، لكن الرجل كان سلطة فوقية لا يعرف أحد سرها الدفين سوى الرئيس “بوتين” نفسه الذي قال عنه ذات مرة “أعرفه لكنه ليس صديقي”.
الذراع الخفي
لا تقبل الدولة الروسية نظريًا، بوجود كيانات عسكرية خارج إطار الجيش، ومنذ سنوات يرقد بين أدراج مجلس النواب الروسي (الدوما) قانون ينظم وجود الشركات العسكرية الخاصة وعلاقتها مع الدولة، لكن القانون لم يُناقش أبدًا رغم وجود كيانات عسكرية خاصة تصول وتجول في بلاد القياصرة، لكن الكرملين رغم وضوح دور هذه المجموعات حرص على نفي علاقته بأي منها.
وفي إطار سعيه لاستعادة الدولة القوية ودور أجهزة الأمن القاسية كان على النظام الروسي أن يلجأ لـ”صديق” أو “أصدقاء”، وكان المرتزقة هم الذراع الخفي الملائم للبطش دون عواقب، وكانت فلسفة الاستعانة بهم كما يلخصها “أندريه شوبرغين” المحلل السياسي: “إذا ما نجحوا فسنستغل النتيجة لصالحنا، وإذا ما فشلوا فلا شأن لنا بهم”.
في عام 2013 شارك “ديمتري أوتكين” واسمه الحركي “فاغنر” بعمليات عسكرية في سوريا مع قوات روسيا التي تقاتل بجانب الرئيس بشار الأسد ضمن شركة “سلاف كوربس” التي كانت تجنّد مرتزقة روسًا، ويعتقد على نطاق واسع أن “أوتكين” الذي خدم سابقَا بصفته ضابطًا في القوات الخاصة التابعة للمخابرات العسكرية الروسية هو مؤسس شركة “فاغنر” التي ذاع صيتها لاحقَا بين شركات روسية عدة لتجنيد مرتزقة وإرسالهم لساحات القتال التي تشتبك فيها روسيا.
في عام 2014 ظهرت كتيبة “فاغنر” التي قاتلت مع الانفصالين الروس في شبه جزيرة القرم، وقد نجحت “فاغنر” التي تطورت وتضخمت من شركة إلى مجموعة شركات بأنشطة متعددة تنبثق عنها قوات “فاغنر”.
وفي 2017 أدرجت الولايات المتحدة “فاغنر” على قائمة الكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات بسبب نشاطها في دعم الانفصاليين شرق أوكرانيا، وأصبح هناك اعتقاد واسع النطاق بأن رجل الأعمال “يفجيني بريغوجين” هو الممول الرئيس لمجموعة “فاغنر”، لكنه كان دائمًا ما ينفي ذلك، لدرجة أنه قام بتحريك دعاوى قضائية ضد صحفيين اعتبروه مؤسسها.
أثار “بريغوجين” غبارًا سياسيًا مع الولايات المتحدة في 2022 بسبب اعترافه أنه حاول التأثير في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، كما ارتبط اسمه بوحدة لنشر المعلومات المضللة على شبكة الإنترنت عن المعارضة الروسية وخصوم الكرملين، وكان هذا أحد مجالات أعماله السفلية الغامضة.
انتقلت نشاطات “طباخ بوتين” للقارة السمراء وفي محاولة لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق في إفريقيا، تمدد النشاط الروسي ومعه “فاغنر”، وفي عام 2017 وافقت الأمم المتحدة على مهمة تدريب للجيش الروسي في إفريقيا الوسطى، ووصلت “فاغنر” دون إعلان رسمي لمساعدة القوات الحكومية في القتال ضد المتمردين.
ويبدو أن تفاهمًا واضحًا من هدف روسيا وهو كنوز الأرض الإفريقية، ففي العام نفسه وقّع الرئيس الروسي “بوتين” مع رئيس إفريقيا الوسطى “خوستين تواديرا” اتفاقات عدة تشمل تقديم دعم عسكري روسي مقابل حق التنقيب واستخراج الألماس والذهب واليورانيوم في الدولة الإفريقية الغنية بالمعادن، وهو الدور الذي شاركت فيه كيانات روسية غير حكومية أهمها “فاغنر” التي امتلكت شركات متعددة عملت كـ”واجهة” لنشاطها الغامض في التجارة والتعدين.
ولم يكن مسموحًا للإعلام أن يتحدث بحريّة عن دور “فاغنر” في الصراعات المسلحة، أو الاقتصاد، وفي 2018 دفع 3 صحفيين روس حياتهم بعد اغتيالهم في إفريقيا الوسطى خلال تصوير “وثائقي” عن نشاط المرتزقة الروس هناك.
ووثقت الأمم المتحدة عام 2021 في تقرير لها نحو 500 جريمة للقوات الحكومية، و”فاغنر” تشمل قتلًا خارج نطاق القضاء واغتصابًا وعنفًا جنسيًا وتعذيبًا، وهي اتهامات مفهومة وطبيعية في ظل أن ميليشيات المرتزقة قوامها أصحاب السوابق والسلوك الإجرامي والعنيف وربما الشاذ.
ظهور “فاغنر”
في 2019 ظهرت “فاغنر” للقتال مع قوات المشير خليفة حفتر في ليبيا، وتوالى ظهور المرتزقة الروس في السودان ومالي وموزمبيق، ودول إفريقية أخرى، ولسنوات خلت كان الكرملين ينفي أي صلة بـ”فاغنر”، وفي أحيان كثيرة كان ينكر وجودها أصلًا أو أي من شركات المرتزقة.
“ليس لدينا مثل هذه الكيانات” كان هذا الرد معتادًا من “ديمتري بسكوف” السكرتير الصحفي للرئيس الروسي مجيبًا عن أي سؤال يتعلق بأدوار غير معروفة، أو مقتل مرتزقة روس في ساحات الصراع.
مع تمدد “فاغنر” وازدياد حجم عملياتها في إفريقيا وقبلها في سوريا وأوكرانيا، وما أشيع عن دورها في العمليات السفلية القذرة، وعالم الجريمة أصبح “يفيجيني بريغوجين” هو الرجل المشكلة، الذي تضخمت ذاته وانتفخ، ولم يعد يرى نفسه مجرد خادم لـ”بوتين” ينحني وهو يقدم له الطعام، وبعد أن تكاثر بيده المال الذي دخل السجن في الماضي بسبب قليل منه، أصبح يعتقد أنه فوق الجميع بما فيهم “بوتين” نفسه.
وكما كانت بداية “فاغنر” في أوكرانيا فإن منحدر التراجع بدأ أيضًا من هناك بعد الغزو الروسي في فبراير 2022، حيث قاتلت قوات “فاغنر” بشراسة، واستولت على مدينة “باخموت” شرق أوكرانيا، وكان النجاح مدعاة لأن يتحدث “بريغوجين” علنًا عن علاقته بـ “فاغنر” وأنه ممولها.
وبرغم أنه لم يكن عسكريًا ولم يلتحق بالجيش في أي مرحلة من حياته، لكنه أطل مرارًا مرتديًا زي المقاتلين على الجبهة، محتضنًا سلاحًا سريع الطلقات، حتى وهو في عمر جنرال متقاعد.
ولأنه لا أحد ينتصر دائمًا فقد تسببت إخفاقات القوات الروسية و”فاغنر” على ساحات القتال في أوكرانيا مع وصول الدعم الغربي لحكومة “كييف”، في انتقادات علنية للجيش الروسي من “بريغوجين”، ثم فوجئ العالم وقبله “بوتين” في يوليو الماضي، بأن السجين السابق ورجل الأعمال الحالي يعلن زحف قوات “فاغنر” نحو العاصمة موسكو، واستولت قواته على مدن عدة، وقتلت فيها الجنود الروس، وذلك بعد تصريحات غاضبة طالب فيها بإقالة وزير الدفاع وقائد الجيش مع اتهاماته بعدم تسليح “فاغنر”، وربما التآمر عليها.
استغرب كثيرون رد فعل الرئيس الروسي بوتين وصوته الخفيض عما فعله السجين السابق، وارتباك المشهد في الكرملين من اعتبار ما فعله “بريغوجين” خيانة –دون أن يذكر اسمه-، ثم الصفح عنه خلال يوم وعدم مقاضاته، والسماح له بالتوجّه لجمهورية “بيلا روسيا” مع مقاتليه.
الدهشة لم تستمر، ففي 23 أغسطس الجاري، أعلن عن سقوط طائرة تقل “بريغوجين” ونائبه وعدد من قادة “فاغنر”، شمال العاصمة موسكو، وبصرف النظر عن عشرات التحليلات حول أسباب الحادث، والسبب الذي جعل طائرة اللص العصامي تهوي من ارتفاع 8 كم ليصبح الطباخ طعامًا للنار والحطام، فإن حسابات “فاغنر” على الإنترنت نشرت مقابلة يظهر فيها “بريجوجين” المتهم بارتكاب جرائم حرب قبل ساعات من مصرعه وهو يتحدث إلى الرجل الثاني في “فاغنر”، ديمتري أوتكين، حيث يقول: “الموت ليس النهاية، هو بداية لشيء آخر”، مضيفًا: “سنذهب جميعًا إلى الجحيم، ولكن في الجحيم سنكون الأفضل”.
سقطت الطائرة الخاصة وعلى متنها السجين الذي أصبح عصاميًا، فيما وقف رجال الإنقاذ يشاهدونها دون أي محاولة لإطفائها، لكن المؤكد أن طيف الديكتاتور السوفيتي جوزيف ستالين (1878-1953) أطل مبتسمًا من بين ثنايا الركام وألسنة نيران الطائرة المحترقة، لأن هناك من يجلس في مطعم عائم بـ”سان بطرسبرج” يتذكره ويردد كلماته، فعندما كان مساعدو ستالين الذي عُرف بدمويته، يخبروه عن تمرد ضابط أو جندي يجيب بسهولة “الموت حل لكل شيء.. لا يوجد شخص إذن لا توجد مشكلة”، ولم يكن يفسر أكثر من ذلك فقد كانت كلماته إشارة لتصفية المقصود، وبوضوح أكثر هناك حكمة روسية قديمة مفادها أنه “إذا اختفى الشخص تختفي المشكلة”.
