لماذا يشعر أساتذة الإعلام بالإحباط والاكتئاب؟!
قدم أحد كبار الأساتذة نصيحة مخلصة للطلاب بعدم دخول كليات الإعلام، ففيها سم قاتل، وأيد دعوته تلك الكثير من الأساتذة في تعليقاتهم على مقاله

أتابع ما يكتبه زملائي أساتذة الإعلام، فأشعر بأنني أشاركهم الحزن على حال الدراسات الإعلامية، وأرى أنه من الطبيعي أن يعيشوا حالة الإحباط والاكتئاب والحسرة واليأس.
قدم أحد كبار الأساتذة نصيحة مخلصة للطلاب بعدم دخول كليات الإعلام؛ ففيها سمّ قاتل، وأيّد دعوته تلك الكثير من الأساتذة في تعليقاتهم على مقاله.
الواقع بالفعل يدفع إلى اليأس؛ فكل ما ندرسه في كليات الإعلام، يتناقض تماما مع هذا الواقع، فكل الخريجين يعانون البطالة، ويشعرون بالسخط على الأساتذة الذين علموهم الحرية، والبحث عن الحقائق، والوفاء بحق الجمهور في المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة والصحافة الاستقصائية، وبالطبع أنا أول هؤلاء الأساتذة الذين تطلعوا إلى بناء جيل من الإعلاميين يبني القوة الإعلامية، ويطور صناعة الإعلام والاتصال.
أين الديمقراطية الداخلية؟!
أذكر أنني تلقيت رسالة يوما من أحد تلاميذي يقول فيها إن كل تلك الأفكار التي قمت بتدريسها لم يجد لها صدى في الواقع، حيث عمل في إحدى المؤسسات الصحفية، وتطلع إلى أن يطبق ما تعلمه، فوجد أصحاب المناصب لا يتمتعون بأية كفاءة، ويتعاملون مع الصحفيين كعبيد، فتساءل بكل براءة: أين الديمقراطية الداخلية؟!! فنظروا إليه باحتقار كأنه قد جاء توًّا من كوكب من خارج المجموعة الشمسية.
كتبت له ردًّا قلت فيه إنني أعلّم جيلا جديدا ليقوم بتغيير الواقع، وليحرر الإعلام من التبعية للسلطة، والتبعية للنظام الإعلامي الدولي، ويبني مؤسسات إعلامية جديدة تشكل أساسا لبناء مجتمع المعرفة.
اختفى هذا الطالب، فلم أعرف له طريقا، بالرغم من أنني حاولت البحث عنه، فقد كان من أكثر تلاميذي علما وكفاءة وأخلاقا، واكتشفت أن من يتمتع بالكفاءة لا يحصل على فرصة عمل؛ لأن السلطة ترفض أولئك الذين يعتزون بحريتهم وكرامتهم وكفاءتهم.. كما أن هناك الكثير من العوامل التي تشكل حالة ظلم عامة لكل خريجي كليات الإعلام خاصة أولئك الذين يتمتعون بالكفاءة، ويريدون تطبيق ما تعلموه، ويتطلعون إلى بناء قوة إعلامية لدولتهم، في حين تريد السلطة إعلاما ضعيفا يكتفي بنشر بياناتها الرسمية، ويمدح إنجازاتها.
الجهل طريق الشهرة والغنى!
من الطبيعي أن يشعر بالاكتئاب كل أستاذ يقرأ الواقع، فالجهل أصبح أقصر الطرق إلى المناصب والشهرة والغنى في كل المجالات، أما في الإعلام فالسلطات في وطننا العربي الحزين تريد جهلاء يغنيهم جهلهم عن كل العلم، ليطيعوا الأوامر بلا مناقشة، ويقوموا بنشر البيانات الرسمية دون تحرير، وتلك مهمة لا تحتاج إلى علم أو كفاءة.
أذكر أن كلية الإعلام بجامعة القاهرة شهدت صراعا في الثمانينيات على التسجيل للدكتوراه في مجال التحرير الصحفي، فقد كان ذلك التخصص مطلوبا في كل الجامعات، وكنت أنا ممن تم منعهم من التسجيل في هذا التخصص، لكنني قمت بعد ذلك بتطوير الفنون الصحفية.
لكن يمكن أن تنظر الآن في صحافتنا العربية، وتسأل: أين التحرير الصحفي الذي أبدع الأساتذة في تطويره وتدريسه في كليات الإعلام؟ وأين أولئك المحررين الصحفيين الذين تخرجوا من هذه الكليات، وهل ما تنشره تلك الصحف أو تذيعه قنوات التليفزيون يتفق مع أخلاقيات الإعلام.
ثم انظر إلى الجماهير العربية التي تم حرمانها من حقها في الحصول على المعرفة والمعلومات، لتكتشف أن المشكلة ليست في العلم، ولكن في الجهل الذي سيطر على السياسة والاقتصاد والإعلام، ودمر الحاضر ويوشك أن يدفع الدول إلى الانهيار.
وظيفة العلم تغيير الواقع!
الوظيفة الحقيقية للعلم هي تغيير الواقع إلى الأفضل وليس المحافظة عليه، لذلك فإن مهمة الباحثين والعلماء في مجال الإعلام هي قيادة الشعوب لبناء إعلام حر يوفر لها المعرفة، ويروي قصتها، ويدير المناقشة الحرة بين اتجاهاتها السياسية للتوصل إلى حلول جديدة للمشكلات.
وظيفة أساتذة الإعلام هي تأهيل إعلاميين أحرار يقودون كفاح الأمة بالمعرفة، ويشكلون الرأي العام، ويكونون وكلاء الديمقراطية فيوفرون للشعب المعلومات التي تساعده على اكتشاف الإمكانيات لبناء المستقبل.
لكن هل يستطيع أساتذة الإعلام القيام بهذه الوظيفة بعد أن فقدوا حريتهم الأكاديمية، وأصبحت أجهزة الأمن تسيطر على الجامعات، فتختار القيادات طبقا لشروط أهمها طاعة الأوامر، وتنفيذها بدون مناقشة، وتقوم تلك الأجهزة بفصل الأساتذة دون أن يجرؤ أحد على التضامن مع زميل له، حتى لا يحل به الويل، ويتعرض لمصيره، فيجوع أطفاله؟
من يتحدث عن الحرية؟!!
من الطبيعي أن يشعر أساتذة الإعلام بالحزن والاكتئاب، ويقدموا نصيحتهم المخلصة للطلاب بعدم السير في ذلك الطريق الذي تحرسه الأجهزة الأمنية.
فليس هناك أستاذ اليوم يستطيع أن يدخل إلى المدرج فيتحدث عن الحرية والديمقراطية والأخلاقيات ووظائف الإعلام والرأي العام، والصحافة الاستقصائية.
معظم الأساتذة والباحثين الآن يطبقون مقولة فولتير: لا تتحدث في السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع، وبعد ذلك أنت حر تحدث كما تشاء.
ولو أن فولتير ما زال حيا لأضاف الإعلام إلى قائمته.. فماذا يدرّس أستاذ الإعلام لطلاب متفوقين يحملون آمالا كبيرة؟
أما أنا فالحمد لله لم أشعر بالاكتئاب أو اليأس، فقد فضلت الهجرة لأدافع عن الحرية، وأطور نظريات جديدة لبناء مستقبل الأمة وقوتها الإعلامية.
وما زلت أحلم وأجتهد وأعمل لبناء إعلام جديد يشكل أساسا لمجتمع المعرفة.
