إزاحة جنرالات الردع النووي والصراع على السلطة بالصين

أطاح الرئيس الصيني شي جينبنغ بعشرة من أكبر جنرالات جيش التحرير الشعبي، دفعة واحدة الأسبوع الماضي.
وأثارت التغييرات المفاجئة كثيرا من الشائعات، حملتها مواقع إخبارية وصفحات الإنترنت، بعضها يشير إلى فضائح مالية بين قادة الجيش، وأخرى تؤكد وجود مخاوف لدى الرئيس من وقوع بعض رجاله في شَرَك الجاسوسية، بالعمل لحساب أعداء البلاد.
كثرت الأقاويل والتحليلات، أثناء الاحتفال بعيد جيش التحرير الشعبي الـ 96، مع نشر وسائل الإعلام الرسمية صورًا لــ” شي” أثناء اجتماعه مع قادة الجيوش للمرة الأولى منذ 8 سنوات، ونشر الصحف الرسمية مئات المقالات، حول دور الجيش في خدمة الحزب الشيوعي والدولة طوال السنوات الماضية.
أمن النظام
منذ وصوله إلى السلطة 2012، وضع ” شي” مفهوم “الأمن القومي الشامل” لضمان أمن نظامه.
يرتكز المفهوم على التخلص من المنافسين المحتملين له داخل الحزب، وإعادة هيكلة أجهزة الأمن العسكري والداخلي، وبناء دولة المراقبة ليصبح كل شخص تحت عيون السلطة على مدار الساعة. أقال شي بصفته الأمين العام للحزب الشيوعي وقائد اللجنة العسكرية بالحزب، الجنرال لي يو تشاو قائد قوات الردع النووي الصاروخية، ونائبه ليو غونغنبيغ، ونصب وانغ هوبين نائب قائد البحرية ببحر الصين الجنوبي، مديرا للسلاح. أصبح شو شينغ المفوض السياسي المشرف على قضايا الانضباط بالقوات الجوية، وعضو اللجنة المركزية للحزب، قائدا عاما لقوات الردع النووي.
جاءت إقالة القائدين، بعد اختفاء أخبارهما لمدة 3 أشهر، ونشرت جريدة تشيانا مورننغ بوست المملوكة لرجال الأعمال جاك ما، أنباء بأن أحدهما أو كليهما يواجهان تهما بالجاسوسية أو الكسب غير المشروع، والموافقة على مشروعات لبناء مستودعات صواريخ ومنشآت نووية وجسور معيبة، مع احتفاظهم بعدد محدود من الصواريخ الجاهزة للتشغيل لزوم التفتيش. في الوقت نفسه، نشرت الصحف عن وفاة مفاجأة لنائب سلاح الصواريخ النوية السابق “وو غوا” مريضا بالسرطان.
عقيدة وشعب وقنبلتان
يفتخر الحزب الحاكم بامتلاكه العقيدة الشيوعية، وأمة صينية مؤمنة بها، عازمة على بناء مجتمع اشتراكي مزدهر، لتصبح قدوة لكافة الشعوب، وقنبلتين تحمي الثورة والدولة من الأعداء. يقصد قادة الحزب بالقنبلتين، القنابل النووية والهيدروجينية، التي توصلت الصين إلى تصنيعهما وتفجيرهما بدعم سوفيتي خلال ستينيات القرن الماضي. ظلت قدرات الصين النووية سرية إلى أن كشف ” شي” مطلع يناير 2016، عن قوات الردع النووي الصاروخية البالستية العابرة للقارات، لأول مرة، باستعراضات عسكرية أقيمت وسط العاصمة بيجين.
يعتبر الرئيس قوات الردع النووي البالستية أحد نجاحاته، التي رفعها في مواجهة الضغوط الأمريكية، ومحاولته “إعلاء صوت الصين بوجه الخصوم”، ويعدها الأكثر تطورا في العالم. أطلقت الصين 135 صاروخا بالستيا للاختبار والتدريب عام 2021. تقدر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أن الصين لديها 400 رأس نووي، تخطط لرفعها إلى 1000 رأس نووية بحلول 2030. توضع تلك الصواريخ تحت إمرة الحزب الشيوعي، الذي يدير كافة مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش عبر لجانه العسكرية والأمنية، التي يشكلها بكل وحداته.
فساد الجيش والدولة العميقة
الحديث حول الفساد أمر شائع داخل مؤسسات الدولة والحزب ومنها الجيش، الذي لا يرغب في الابتعاد عن ممارسة دور في الحياة الاقتصادية، رغم ما يثار من حين لآخر، حول سوء صرف أموال المشروعات أو إقامة منشآت بمعايير رديئة، والمشاركة في أعمال مدنية، تدر أرباحا وعمولات للقائمين عليها. يستغل العسكريون عدم قدرة الصحف على نشر أية معلومات عن الجيش أو ما يقع من قادته من فساد، لتمتعه بحصانة سيادية.
يعلم المواطنون بعض وقائع الفساد مما يعلنه الرئيس بنفسه عن حملات التطهير التي يقودها عبر لجنة النظام بالحزب، لمحاربة “النمور والذباب”، والمقصود بهم كبار الفاسدين والصغار المحيطين بهم. تتداول وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الصحف معلومات عن ممارسة “شي” حملة تطهير في أخطر سلاح لديه القدرة على تدمير العالم عدة مرات، قائمة على شكوك بالفساد وعدم الولاء له. تطلق تلك الحملات عادة لمواجهة عدم الاستقرار في المستويات العليا بأجهزة النظام، التي تتساقط كالدومينو، لتشمل دوائر أخرى بالدولة.
الولاء أولا
تظهر المعلومات أن الجنرال لي تشاو لديه ابن يدرس بالولايات المتحدة، فجاء بمكانه بوانغ هوبين الحاصل على دبلومة عسكرية ولم يدرس بأكاديميات عسكرية عليا. وحل شوشينغ بمركز القيادة، رغم عدم خبرته السابقة بسلاح الصواريخ، لسابق عمله لسنوات بالقوات البحرية، لمجرد أنه مسؤول باللجنة المركزية للحزب الشيوعي. تعكس الاختيارات عدم ثقة “شي” بالقادة السابقين للسلاح النووي، بإحالة 6 منهم إلى التحقيق، لإشرافهم على بناء منشآت غير مطابقة للمواصفات. استبعد ” شي” باقي نواب السلاح من الترقي، وجاء بمن يديرهم من خارجه، رغم سابقة تعيينهم بنفسه -كما يذكر محللون- وظل يفتخر بهم لسنوات، مع كونهم أقل من سن التقاعد المحدد بـ 65 عاما.
عودة وزير واختفاء آخر
أزاح ” شي” وانغ شاو جين وزير المخابرات الداخلية منذ 3 أشهر، ولم يعلن الخبر المقتضب إلا قبل وفاته الأسبوع الماضي، بينما نأى بنفسه عن الحديث حول مصير وزير الخارجية قانغ تشين، عضو جماعة “المحارب الذئب” التي أسسها “شي” والمدعو برجله المدلل، الذي اختفت أخباره عن العالم لمدة شهر، في شبهة علاقة عاطفية مع مذيعة بتلفزيون هونغ كونغ، أثناء عمله سفيرا في واشنطن.
أنهى مجلس نواب الشعب (البرلمان) الحديث عن الوزير المفقود، نهاية يوليو الماضي بقرار أصدره بإعادة وانغ يي وزير الخارجية الأسبق لمدة 10 سنوات، إلى منصبه للمرة الثانية. احتفظ يانغ يي بمنصب كبير الدبلوماسيين بالحزب، وهو منصب يعلو الوزارة، التي غادرها لمدة 8 أشهر فقط. بقي الرجل المدلل مختفيا ومحتفظا بمنصبه كمستشار سياسي بمجلس الدولة، وعضوية اللجنة المركزية للحزب، بمرتبة نائب رئيس وزراء. يتوقع مراقبون عودة “المحارب الذئب” لمنصبة مرة أخرى، طالما ظل الرئيس راضيا عنه. تكشف الأحداث خطورة النظام المغلق في الصين، عندما يتعامل بسرية في قضايا تمس أمن العالم، ويتكتم على فساد، فلا يظهره إلا في إطار حرب طاحنة بين الموالين والخصوم، بينما الحقائق تستغرق شهورا أو ربما لسنوات ليعلمها الجمهور.
