معارك الإلهاء الشرعيّة والاعتقاديّة في خدمة الطّاغية المستبدّ
“إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلا ويتَّخذ له صفةً قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضًا، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ”
هكذا عبّر عبد الرّحمن الكواكبي في كتابه القيّم “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” عن منهجيّة الطّاغية في تأليه نفسه وتقديسها، والأدوات التي يستخدمها لتحقيق هذا التأليه والتّقديس، ومن أهمّ هذه الأدوات زمرةٌ من هواة التصدّر باسم خدمة الدّين.
فرعون.. المنهجيّة المستمرّة
عندما حشر فرعون النّاس ونادى فيهم معلنًا: “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ” جعل عنوان تأليه ذاته التفرّد بالرأي والاستئثار بسبيل الرشاد؛ فهو صاحب الحكمة والفكر المُلهَم والمُلهِم، وهو المرجع الأوحد في الرأي السديد والرأي الرشيد، كما بيّن ربنا تعالى حكاية على لسان فرعون في سورة غافر: “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”.
وفرعون الذي تحدّث عنه كتاب الله تعالى في مواضع كثيرةً من الكتاب العزيز لا ينبغي التّعامل معه على أنّه شخصيّةٌ تاريخيّةٌ مضت وانتهت بل هو الظاهرة المستمرة والممتدة عبر الزمن، والنموذج المتكرّرُ إلى يومنا هذا للمستبدّ السياسي وعقليّته ومنهجه وسلوكه والذي نجده في الأزمنة والأمكنة كلّها.
لقد كان سلوك فرعون لتثبيت حكمه وإشغال النّاس عن استبداده وإقناعهم بأنّه صاحب الحكمة الأرجى والمقام الأقدس يتمثّل في نقاط عديدة أهمّها، القمع والإرهاب وارتكاب المجازر والتنكيل بكلّ من تُشم منه رائحة إمكان المخالفة أو المعارضة، وتفريق النّاس وإشعال الفتن والمعارك بينهم؛ هذه المعارك التي ينشغلون فيها بأنفسهم عن فرعون وجنوده وما يمارسونه من طغيان واستبداد، واتّخاذ سحرةٍ يضفون عليه القداسة وعلى أفعاله المشروعيّة وتدجين الجماهير وإخضاع رقابهم عبر خطابهم الإعلامي.
قال تعالى في سورة القصص: “إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ”
وقال عزّ وجلّ في سورة الاعراف: ” وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ”
معارك الإلهاء باسم الشريعة
هذه المنهجيّة الفرعونيّة التي هي منهجيّة كلّ مستبدٍّ ما تزال مستمرّة إلى اليوم، غير أنّ السّحرة ارتدوا عمائمَ وجلابيب وصاروا يحدّثون النّاس بِـ “قَال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم”!
يطلقون على أنفسهم اسم علماء ودعاة، وفي الحقيقة أنّهم ليسوا أكثر من مدّعي العلم، ولو كانوا يحملون من الشهادات الأكاديميّة أعلاها، ويحملون في صدورهم حفظ الأحكام المستنبطة من كتاب الله تعالى، لأنّ العالم الحقّ هو الذي يبلّغ رسالة الله تعالى ويخشاه ولا يخشى أحدًا سواه، كما قال تعالى في سورة الأحزاب: “الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا”
يُشعلُ علماء السلاطين ومدّعو العلم ومعهم كثيرٌ من السذّج من طلبتهم ومن أشباه المتعلّمين وأنصاف الدّعاة من الرّاغبين في التّصدّر في ساحة العلم والدّعوة معاركَ شرسةً جانبيةً باسم الشريعة والعقيدة؛ باسم الدّفاع عن التّوحيد تارةً وقمع البدعة وأهلها تارةً أخرى، أو تحت عنوان فضح أهل الباطل، ويعلنون بألسنتهم أنّ الله تعالى من وراء القصد وأنّ إشعال هذه المعارك إنّما جاء لخدمة العقيدة والتوحيد، وفي الحقيقة ما هي إلّا معارك إلهائيّة لخدمة المستبدّ فهو المستفيد سواء قصدوا أم لم يقصدوا، ومعاركهم هذه تلهي النّاس وتشغلهم عن مكمن الدّاء الحقيقيّ وهو جرائم المستبدّ وطغيانه.
إنّها معارك أشغلت الناس عقودًا في شرك القبور وألهَتهُم عن شرك القصور، وأشغلت الجماهير في استواء الرّحمن على العرش وألهَتهُم عن استيلاء الحاكم على العرش، كما أنّها أشغلت النّاس بكرامات الأولياء في المنامات عن مهانات الطّغاة وإذلال الشعوب في اليقظة، واليوم تريد بعض الأصوات إشغال النّاس بإشعال المعارك الإلهائيّة لأجل الحكم على عقيدة الإمام النووي ووضع عقيدة الإمام أبي حنيفة على طاولة التقييم وإطلاق وصف المبتدع على ابن حجر العسقلاني.
ولا تكفّ هذه الأصوات عن إشعال المعارك بين الأشاعرة والحنابلة، واستيراد القضايا الخلافيّة من عمق التاريخ؛ تلك القضايا التي أكل الدّهر عليها وشرب فينفخون فيها الروح ويجعلونها المعركة الفاصلة لنصرة عقيدة التوحيد التي تُسلّ فيها سيوف التكفير والتفسيق والتبديع بينما تكتوي ظهور الحنابلة والأشاعرة والماتريديّة وكلّ المتعاركين في هذه المعارك العبثيّة بسياط المستبد الذي يرميهم عن قوس واحدة.
هذه المعاركُ الإلهائيّة فضلًا عن كونها تعبّر عن الإسفاف العلمي والانحدار الفكري، وسوء الأخلاق؛ فإنّها من أهم أدوات خدمة المستبدّ الذي يروق له اشتعال المعارك الجانبيّة بين الجماهير وزيادة الفرقة بينهم ويمنحهم الحريّة المطلقة في الاقتتال بينهم ليمجّده المتقاتلون إذ يتيح لهم الحريّة ويفتح لهم الأبواب للدّفاع عن الدّين والذّود عن بيضة التّوحيد.
إنّ طرح المسائل الخلافيّة بين المدارس الشرعيّة والمذاهب الاعتقاديّة داخل الغرف البحثيّة المتخصّصة، والتعامل معها بمنطق البحث العلميّ الرزين بعيدًا عن متناول الجهلة أمر مطلوب وهو إثراء لحركة الفكر الإسلامي، غير أنّ الذي يحدث في الفضاءات الافتراضيّة اليوم لا يمتّ للبحث العلمي أو الطرح الفكريّ بأيّة صلة، وهو محض معارك إلهائيّة مفرّقة للصفوف، ومشتتة للجموع، ومبدّدة للطاقات، وملهية عن الأدواء الحقيقيّة، وكل هذا لا يخدمُ إلّا فرعون؛ المستبدّ المتربّع على عرشه يراقب المعركة ويفرك يديه بكلّ غبطةٍ وحبور.