الثانوية العامة والمَدْرسة والأزمة «المُعقَّدة».. ومخاطر اتساع «بيزنس» التعليم!

مئات الآلاف من الخريجين ولا يوجد إلا زويل واحد!

 

عشت بنفسي الثانوية العامة طالبًا عام 1984، في مدرسة جديدة من فصلين فقط في قريتنا بلا مدرسين أساسيين، وبلا مقومات تُؤهل للالتحاق بالتعليم الجامعي، أتى بها أعضاء بالحزب الوطني الذي سقط مع مبارك في 2011، بهدف الدعاية السياسية الشعبوية التي لا يعنيها تدمير مستقبل أجيال، إنما إحداث ضجيج عن إنجاز قاصر، وهي ممارسة لا تزال مستمرة في ظل أوضاع بعيدة عن المحاسبة.

في ذلك الوقت، لم تكن معركة الثانوية بالدرجة نفسها من الاشتعال كما هى اليوم، وما قبل اليوم طوال العقود الثلاثة الأخيرة.

وكانت المدرسة على أيامنا لا تزال مصدر التعليم قبل أن يختفي دورها وتصير الفصول خاوية على عروشها، وينتقل التعليم إلى مراكز الدروس الخصوصية التي بدأت مجموعات محدودة في البيوت، ثم أصبحت في مراكز خاصة علنية كثيفة الانتشار يحتشد بكل غرفة فيها عشرات الطلاب لتنافس فصول المرحلة الابتدائية في كثافتها، وهي تدر أرباحًا ضخمة لأصحاب المراكز والمدرسين الذين لم يعودوا يعملون بمدارسهم، إنما فقط يستلمون رواتبهم منها آخر كل شهر.

نحن أمام أزمة سنوية مُعَقّدة اسمها الثانوية العامة، وأمام نظام تعليمي مرتبك، وأمام تدهور للتعليم؛ فكرة وهدفًا ووسائل ومدارس وأبنية وقضية بناء إنسان ومجتمع ووطن.

قل ما شئت فيما يحدث في التعليم من تراجع منذ الصف الأول الابتدائي حتى استلام الطالب شهادته الجامعية، وكذلك الأمر في التعليم الثانوي الفني غير الجامعي.

بلد شهادات

وعندما يُقال إننا “بلد شهادات”، فهو قول واقعي من جهة أن الهدف من مرحلتي التعليم العام والجامعي الحصول على شهادات، لكن ما قيمتها وفائدتها في تطوير الحياة والمجتمع والمشاركة في صنع الحضارة؟ لا شيء، إذ رغم مئات الآلاف من الخريجين سنويًّا بمختلف الكليات والمعاهد، فلا نزال في تخلف علمي وتكنولوجي وبعيدين عن النهوض والتطور.

والمشكلة لا نلقيها على عاتق الطالب، ففي الألوف منهم بكل دفعة ستجد نوابغ مستعدين ليكونوا باحثين ومشروعات علماء أفذاذ، إنما جوهر المشكلة في منظومة التعليم، ورؤية سلطات الحكم المتعاقبة له وجدية تطويره والنظرة لما يُراد منه في المجتمع، ومدى الاحتفاء بالتعليم والعلم والعلماء والفهم الحقيقي لدور التعليم ومخرجاته في بناء نموذج التنمية الجاد وصنع الحاضر والاستعداد للمستقبل.

هل نحن أمة مشغولة بالتعليم باعتباره قضية أمن قومي بالفعل، أم هو مجرد روتين من تشغيل مدارس وجامعات، وانتظام هيئات تدريس وموظفين، وعقد امتحانات، وإعلان نتائج، وانتقال من عام دراسي إلى آخر، وتخريج طلاب وإحصائيات وبيانات وإنجازات على الورق دون فوائد وانعكاسات حقيقية لها على واقع الحياة وتحسُّنها؟

عبث وانحدار

وبعد عقود من تجربتي، أتابع تجارب لأجيال أخرى بيننا حيث أجد العبث والانحدار متجسدًا بشكل واضح في الثانوية العامة والتعليم عمومًا، فهناك طلاب متزايدون لا يذهبون إلى المدرسة، ولا يتلقون درسًا في الفصول، إنما مدرستهم هى مراكز التعليم الخاصة، وتحصيلهم من الكتب الخارجية غير المدرسية، وعامهم الدراسي يبدأ كما تحدده المراكز مبكرًا عن الموعد الرسمي الذي تقرره وزارة التربية كل عام، وما تخطط له الوزارة وتعلنه هو من قبيل إثبات أن هناك دراسة وعامًا دراسيًّا.

الثانوية والتعليم العام صار (بيزنس) ضخمًا، مليارات الجنيهات، تجارة ومكاسب هائلة لمراكز الدروس الخصوصية، استثمارًا على حساب العائلات التي تقتطع من معيشتها الصعبة للدفع للدروس الخصوصية حيث لم تعد المدرسة تقوم بدورها، فقد هجرها الطلاب، وهو فشل للوزارة والحكومة أن تعرف ذلك وتمرره، والوزير الحالي زاد الطين بلة بحديثه عن ترخيص مراكز الدروس وتقنين وجودها، ووزارة المالية تحدثت كذلك عن ضرورة تحصيل الضرائب من المراكز والمدرسين العاملين فيها.

وهذه نظرة ضيقة نفعية، لا تبتغي إصلاح التعليم، بل هدفها المال فقط، وكأن استنهاض دولة وأمة وبناء عقل وطالب وإنسان ومجتمع ووطن مُرتهن بالمال وحده، والمشكلة ليست في توفر المال من عدمه، إنما الأهم هو جدوى إنفاقه على خطط تطوير صحيحة مخلصة تخرج عنها نتائج ملموسة مفيدة.

لم تنهض ألمانيا واليابان بعد الهزيمة إلا بالتعليم، ولم تنمو سنغافورة وماليزيا وبلدان الخليج إلا بالتعليم، وأمريكا أنقذت نفسها بالتعليم حينما قالت يومًا: نحن أمة في خطر، وأوربا وكل البلدان المتقدمة شرقًا وغربًا نهضت بالتعليم حيث كانت جادة في تحركها ومسارها، ولم تكن مرتبكة أو تُكثر من التجريب العقيم.

خصخصة التعليم

ويؤلمني ما أجده من توسع هائل في التعليم الجامعي الخاص، هناك عدد كبير من الجامعات الهادفة للربح (27 جامعة)، ومئات المعاهد الخاصة، والحكومة دخلت هذه الدائرة بإنشاء جامعات أهلية أسعارها مماثلة تقريبًا للأسعار المرتفعة في الجامعات الخاصة، علاوة على الجامعات الدولية، وأشكال أخرى من التعليم ذات الطبيعة الخاصة الربحية، فهل ذلك تقليص تدريجي للتعليم الجامعي الحكومي المجاني، وإفساح الطريق أمام مزيد من خصخصته واتساع “البيزنس” فيه؟ وهل هذا الاستثمار يقدّم تعليمًا بمستوى راق، أم مجرد منح شهادات فقط؟ هذه مخاطر مقلقة ومخاوف مشروعة.

لدينا مئات من الكليات المتشابهة التي تقدّم التعليم التقليدي، ومئات الآلاف من الطلبة الذين يتخرجون من التعليم الخاص والأهلي، ومن التعليم الحكومي (27 جامعة)، وفي النهاية لا نجد إلا زويل واحدًا حصل على نوبل من معهد أمريكي، وليس من جامعة مصرية.

التعليم يمر بأزمة قديمة عميقة، ويعاني غياب الرؤية الجادة في تطويره، وربما هناك رغبة في التحجيم التدريجي للمجانية والاتجاه نحو التعليم المدفوع.

كل المخاطر يمكن مواجهتها إلا انهيار التعليم، نحن أمة في خطر مثلما قالت أمريكا عن نفسها، وإنقاذ التعليم فرض عين عاجل وحاسم، والتعليم هو الإنجاز الحقيقي، ومنافعه أكيدة في انتشال الأوطان من الضياع، وهو أول وأهم علاج لإخراج مصر من أزماتها المُعقَّدة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان