هل يتساوى القطاعان الخاص والعام في مصر بعد هذا القانون؟

محطة رمسيس

 

يتنهد “جودة” الذي جاء -قبل سنوات- من أسوان للعمل في القاهرة، وهو يتذكر كيف جرَّب حظه في أكثر من مهنة، ومارس عددًا من الأعمال المرهقة قبل أن ينجح في تأجير “كشك” صغير للمشروبات الساخنة -من الباطن- عن طريق مسؤول صغير في إحدى الوزارات التي حصلت على امتياز هذا المشروع بمنطقة وسط القاهرة.

يبتسم الفتى الأسمر وهو يتفاخر بأنه مُعفى من رسوم وضرائب وخلافه، وبأنه محمي لأنه “مأجر من الحكومة” و”الكشك على الورق تبع الحكومة”.

يقول بائع المشروبات الساخنة إنه بدأ العمل في ميدان رمسيس -المواجه لمحطة قطار القاهرة- بمفرده، لكنه لم يستطع المنافسة مع “كشك الوزارة” الذي لا يدفع الضرائب ولا الكهرباء ولا يواجه أي متاعب من سلطات الحي المحلية، فقرر أن يؤجر “كشكًا من الحكومة”.

وبينما يشعر الشاب الجنوبي بسطوة أمام منافسيه -الصغار- فإن رجال أعمال مصريين وعربًا وأجانب كان لديهم تخوف -بدا للحكومة المصرية أخيرًا أنه حقيقي- بسبب زيادة الأنشطة الاستثمارية التي تقوم بها أجهزة ووزارات وهيئات حكومية أو محسوبة عليها، وتتمتع بإعفاءات ضخمة تجعلها خارج المنافسة مع القطاع الخاص، سواء كان هذا النشاط صناعيًّا أو زراعيًّا أو تجاريًّا أو إنشائيًّا.

لكن المؤكد أن ابتسامة الشاب القادم من صعيد مصر قد لا تدوم طويلًا بعد أن نشرت الجريدة الرسمية قبل أيام تصديق رئيس الجمهورية على القانون الذي أصدره البرلمان المصري بإلغاء جميع الإعفاءات التي تشمل الضرائب والرسوم وغيرها، والتي مُنحت عبر عقود لجهات الدولة التي تمارس الأنشطة الاستثمارية والاقتصادية وتميزها عن نظيرتها من القطاع الخاص التي تنخرط في الأنشطة ذاتها.

امتيازات بائع الشاي

وبعيدًا عن إلغاء امتيازات “بائع الشاي”، فإن هذا القرار سيخلّف أثرًا إيجابيًّا على تشجيع مناخ الاستثمار لأنه سيكفل فرصًا عادلة -نظريًّا على الأقل- لجميع المشروعات الاستثمارية والاقتصادية في المعاملات والأعباء المالية المفروضة على تلك الأنشطة.

ويُعَد القانون بمثابة إدراك واضح -من الحكومة المصرية- أن دعم اقتصادات السوق الحر، وخلق بيئة تنافسية تشجع المستثمرين على ضخ مزيد من الأموال، لن يمكن أن يتحقق في ظل إعفاءات واستثناءات تجعل طرفًا مقيمًا في الأسواق وحده دون شريك أو منافس.

إن هذا الإدراك وإن جاء متأخرًا، فهو خير من ألا يأتي أبدًا، فلم يكن من العدالة أن تنخرط مستثمرًا في أي مشروع وأمامك منافس يبدأ معك في الوقت ذاته وهو متخفف تقريبًا من نصف الأعباء المفروضة عليك أو يزيد.

ويعكس القانون الذي تقدمت به الحكومة المصرية إلى مجلس النواب قبل نحو شهرين حرص الدولة على تحسين مناخ الاستثمار، ومنح دور أكبر لمشـاركة القطاع الخاص في مختلف الأنشطة الاقتصادية، في أجواء منافسة عادلة أو تقترب من توفيرها.

ومن المؤكد أن رؤوس أموال مصرية وعربية وأجنبية سيمنحها مشروع القانون مزيدًا من الثقة في السوق المصرية، بعد أن كان التشكك حاضرًا في الواجهة بفعل عدم القدرة على المنافسة وفق آليات السوق.

إن القانون الذي أقره مجلس النواب قبل نحو شهر في نهاية دور الانعقاد الثالث سيسهم في تعزيز الشفافية والحياد التنافسي في السوق المصرية، وسيقود لتشجيع الإنتاج المحلي، ويسهم في خلق مزيدٍ من فرص العمل التي تحتاج إليها الحكومة بالتأكيد لخفض معدل البطالة الذي بلغ 7.1% خلال الربع الأول من 2023، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

وهناك مكاسب مالية من إصدار القانون ستصب مباشرة في الخزانة العامة، فوفقًا لتقديرات وزارة المالية المصرية، فإن 100 مليار جنيه ستكون عائدًا متوقعًا من ضرائب ورسوم وخلافه خلال السنوات الخمس المقبلة، بعد إلغاء الاستثناءات الممنوحة للأنشطة الاستثمارية التي تقوم بها أجهزة الدولة منفردة أو بالمشاركة.

حرص الدولة المصرية

ويأتي القانون في إطار إجراءات عدة تعكس حرص الدولة المصرية على تحسين مناخ الاستثمار، والعمل على تشجيعه عن طريق كفالة فرص عادلة لجميع الأنشطة الاستثمارية والاقتصادية في المعاملات المالية المنظمة لتلك الأنشطة.

وفي ظل أزمات اقتصادية في الإقليم والعالم، لم يعد هناك بُد من دعم الحكومة المصرية لأجواء التنافس في إطار قيم الحياد والشفافية، واقتصادات السوق الحر، لما في ذلك من أثر يسهم في خلق بيئة استثمارية صحية تُطمئن المستثمرين، وتدفعهم -اختيارًا- لضخ مزيد من الاستثمارات التي ينهض بها الاقتصاد القومي، وتؤدي بالتبعية إلى تحسين مؤشراته.

من الناحية النظرية، فإن القانون المشار إليه خطوة مهمة في طريق لا بد من المضي فيه للمساواة بين القطاعين العام والخاص في مصر.

وبغضّ النظر عن أن صندوق النقد الدولي حث الحكومة المصرية على تلك المساواة في اتفاق أُبرِم في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وحصلت مصر بموجبه على قرض يبلغ 3 مليارات دولار، فإن إلغاء الامتيازات الممنوحة للأنشطة الاستثمارية التي تقيمها الدولة كان مطلبًا لقوى سياسية داخلية، رأت أن التمييز يقتل روح المنافسة، ويجعل القطاع الخاص في موقف الأقرب إلى الخسارة دائمًا.

أما من الناحية العملية، فإن سحب الامتيازات والإعفاءات والتسهيلات الخاصة من الواجهة الاقتصادية، سيكون اختبارًا للرغبة الحقيقية وراء إصدار القانون بعد اقتراح مشروعه من الحكومة نفسها، التي طالما راكمت -خلال عقود- مزايا واستثناءات لأنشطة الاستثمار التي تقوم بها الدولة.

وستتكفل فترة انتظار غير طويلة في كشف مدى جدية الحكومة المصرية في تطبيق القانون، وما إذا كان مجرد امتصاص مؤقت واستجابة شكلية لضغوط داخلية أو خارجية، أم أنه رغبة صادقة في دفع المنافسة بين القطاعين العام والخاص لصالح الاقتصاد المصري، أو بين “جودة” ورفاقه.

لم يستطع بائع المشروبات الساخنة أن ينافس “كشك الوزارة”، ولم يكن الأمر عادلًا على نطاق أوسع عندما دخلت كيانات كبيرة عليها التزامات أكبر في منافسة غير متكافئة مع أنشطة استثمارية مملوكة لأجهزة الدولة أو محسوبة عليها بصورة أو أخرى.

لكنّ وقتًا مناسبًا يجب أن يمر لنعرف هل تختفي ابتسامة بائع الشاي الساخرة وسطوته على رفاقه، عندما يتساوون معه في تكاليف العمل؟ أم يظل “جودة” ينظر بتهكم إلى من يعملون في مهنته متكئين فقط على سواعدهم وعرقهم؟

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان