انقلاب النيجر وصراع النفوذ على القارة الإفريقية

ليس جديدًا أن يحدث انقلاب في دولة إفريقية، كما حدث في النيجر أخيرًا، فالانقلابات كانت وما زالت الملمح الأساسي للحياة السياسية الإفريقية، منذ بدء الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الأوربي. لكن الجديد أن الانقلاب في النيجر جاء على خلفية تنافس استراتيجي محموم في إفريقيا، ومحاولات أمريكية غربية لمواجهة تمدد النفوذ الروسي والصيني في القارة السمراء.
تتصدر إفريقيا العالم في عدد الانقلابات العسكرية، في الوقت الذي تئن فيه شعوبها من وطأة الفقر، وتحتل غالبية دولها مراكز متأخرة في مؤشرات التنمية البشرية، رغم ما تتمتع به القارة من موارد وإمكانيات.
لقد شهدت القارة السمراء 205 محاولات انقلاب، ما بين فاشلة وناجحة، منذ ستينيات القرن العشرين.
لم يكن انقلاب النيجر في 26 يوليو/تموز 2023 سوى حلقة جديدة في سلسلة الانقلابات الممتدة في القارة الإفريقية، ويُعَد هذا الانقلاب الخامس في تاريخ البلاد منذ الاستقلال عام 1960.
وبغضّ النظر عن الأسباب والتفاعلات الداخلية لانقلاب النيجر، فإن التفاعلات الدولية كانت حاضرة بقوة، وألقت بظلالها على المشهد الانقلابي في نيامي.
إفريقيا ساحة صراع بين القوى الكبرى
رغم أن انقلاب النيجر الأخير كان سلميًّا، فإن صداه الدولي كان لافتًا، وهو ما يعكس طبيعة اللحظة الراهنة، وما يشهده العالم من تحولات، ويشير إلى ارتباط الانقلاب بالتنافس السياسي بين القوى الكبرى، والصراع بين معسكرين؛ شرقي تُمثله روسيا والصين، وغربي تُمثله فرنسا وأمريكا.
وفي ظل صراع القوى الكبرى على بسط الهيمنة، يبدو أن اليد العليا في النظام العالمي الجديد ستكون لمن سيحسم صراع النفوذ على دول الجنوب، التي تضم إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
فمنذ اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، وما ترتب عليها من تداعيات وأزمات، تحولت دول الجنوب -إفريقيا وأمريكا اللاتينية- إلى ساحة صراع وتصفية حسابات بين القوى العالمية الكبرى؛ أمريكا والصين وروسيا، ويمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية أشعلت فتيل الصراع بين الشرق والغرب على استمالة هذه الدول.
وبالنسبة لإفريقيا، فالموارد والموقع الاستراتيجي هما المحرك للقوى الكبرى في سباقها بحثًا عن موطئ قدم فيها، علمًا بأن الصراع للسيطرة على الموارد الطبيعية في إفريقيا قائم منذ مرحلة الاستعمار، ولكن تم تغيير الاستعمار المباشر عبر القوة العسكرية، إلى استعمار عبر الشركات العالمية، التي مكن لها النظام الاقتصادي العالمي القائم على أيديولوجية الهيمنة النيوليبرالية، واستمر معه تخلف دول القارة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وتقويض قدرات دولها على الوفاء بمتطلبات شعوبها.
خريطة النفوذ في القارة الإفريقية
وبالنظر إلى خريطة الصراع على النفوذ في إفريقيا، سنجد أنها تتوزع الآن بين ثلاث قوي، هي: الصين وروسيا وأمريكا.
والمتابع لحراكات الدول الكبرى سيجد هرولة محمومة نحو إفريقيا لتدعيم النفوذ، زادت حدتها في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وبوادر الأزمة الصينية الأمريكية، حيث أصبحت القارة السمراء في بؤرة صراع النفوذ بين القوى الكبرى، وساحة رئيسية لما يُطلق عليها الحرب الباردة الجديدة.
فمنذ بداية النصف الثاني من عام 2022، شهدت القارة نشاطًا دبلوماسيًّا كثيفًا للقوى الثلاث الكبرى؛ أمريكا وروسيا والصين، على مستوى وزراء الخارجية وكبار المسؤولين، لاستمالة دول إفريقيا.
نفوذ صيني وروسي يتمدد على حساب النفوذ الغربي
فمن ناحية الصين، فقد باتت بهدوء وعبر بوابة الاقتصاد تتمتع بنفوذ قوي للغاية في جميع البلدان، حتى في تلك التي توجد بها قواعد عسكرية أمريكية، خاصة أنها تتجنب تمامًا إبداء أي رغبة في فرض نفوذ سياسي في القارة الإفريقية.
وبحسب تقارير عديدة، فقد عززت الصين نفوذها في إفريقيا بإبرام اتفاقيات مع غالبية دولها تقريبًا، ويوجد نحو 10 آلاف شركة صينية في دول القارة السمراء، تعمل في أنشطة ومجالات مختلفة.
وعلى الجانب الروسي، فقد قدّمت موسكو نفسها لدول القارة الإفريقية انطلاقًا من علاقات تاريخية، وعلى أرضية المصلحة المشتركة للتعاون ضد الهيمنة الغربية، ومساعدة إفريقيا في التحرر من الاستعمار الغربي.
كما تُعَد روسيا المورّد الأكبر للأسلحة إلى القارة الإفريقية، إذ تستحوذ على نسبة 44% تقريبًا من واردات السلاح للقارة، متفوقة في ذلك بنسبة كبيرة على الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
وقد ترجمت القمة الروسية الإفريقية الثانية، التي عُقدت يومي 27 و28 يوليو/تموز 2023، حجم التطور الكبير في العلاقات الروسية الإفريقية، إذ شاركت في القمة 49 من أصل 54 دولة إفريقية.
وعلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، فنفوذها يتمدد في نحو 40 دولة إفريقية، وإن بمستويات مختلفة. وتسعى واشنطن لتعزيز حضورها في مواجهة الصين وروسيا، في ظل تنامي حالة الاستياء من النظام الذي يقوده الغرب، والذي لا يراعي مخاوف الدول الإفريقية ومصالحها.
ختامًا
جاء انقلاب النيجر في لحظة تحوّل حرجة يعيشها النظام الدولي القائم، وصراع على النفوذ والهيمنة بين القوى الكبرى.
ويُعَد التنافس الدولي على إفريقيا أحد المحفزات الرئيسية للانقلابات في القارة، حيث يضمن المنقلبون غطاءً ودعمًا من إحدى القوى الدولية المتنافسة.
ولا يمكن النظر إلى انقلاب النيجر وغيره بمعزل عن صراع النفوذ الدولي، وأنه جاء تعبيرًا عن إرادة وطنية للانفكاك من الهيمنة الاستعمارية الغربية، بقدر ما قد يكون خطوة للانتقال من مظلة مهين إلى آخر بشروط محسَّنة، أو بمعنى أصح هو إعادة تدوير للاستعمار بوجه مختلف يوفر هامشًا من الحرية.
تعيش غالبية دول إفريقيا ما بين الهشاشة الكبيرة، والفشل السياسي، والمهددات الأمنية الخطيرة، والتدهور الاقتصادي والاجتماعي، والانقلابات العسكرية، وتلك خلطة مواصفات تجعل من إفريقيا ملعبًا أساسيًّا لمباريات النفوذ بين القوى الكبرى، وهو ما يعني أن القارة مستمرة في الخضوع للهيمنة، وما زال أمامها وقت طويل لتحقيق التحرر وتملُّك سيادتها.
