لقاء المنقوش وكوهين يكشف عمق الأزمة العربية

نجلاء المنقوش
وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش (رويترز)

الأزمة المطروحة على الساحة الليبية حاليًّا، لا تتمثل بالدرجة الأولى في لقاء نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية بإيلي كوهين وزير خارجية دولة الاحتلال الإسرائيلي، في العاصمة الإيطالية، وهو اللقاء الذي أزاح كوهين الستار عنه -رغم سريته- لأسباب غير معلومة، ذلك أن الأنباء أفصحت عن لقاءات سابقة متعددة، وعلى مستويات مختلفة، وهو أمر يثير الدهشة في دولة متوترة داخليًّا، فإذا بها تقفز خارجيًّا إلى سياسات تزيد من حالة التوتر، الأمر الذي فاقم من حدة الاحتجاجات الشعبية هناك.

أعتقد أن الأزمة بالدرجة الأولى عربية أكثر منها ليبية، أزمة أنظمة مهترئة أكثر من كونها أزمة شعوب، أزمة أسرار والتفاف على إرادة المواطنين في غياب الشفافية والحكم الرشيد والقرار المستقل، ذلك أن الحالة الليبية في هذا الصدد، بمثابة نموذج لما عليه السياسات العربية حاليًّا لا فيما يتعلق بإسرائيل فقط، بل بالسياسات الخارجية بشكل عام، وهو ما يوحي بأننا على أبواب ممارسات وسياسات صادمة، قد تكون أكثر تعقيدًا، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن معظم هذه الأنظمة لا تستمد شرعيتها من الشعوب من جهة، ومن جهة أخرى عندما نرى أن هذه السياسات تصطدم بالإرادة الشعبية بالفعل.

الاحتجاج الأمريكي

ويأتي الاحتجاج الأمريكي الرسمي على سلوك الوزير الإسرائيلي في كشف المستور، ليؤكد الجهد الأمريكي في هذا الصدد الذي يتعلق برعاية هذه اللقاءات، كما يكشف أيضا عن لقاءات سابقة، إلا أن الشعب الليبي هو آخر من يعلم، على اعتبار أن الولايات المتحدة تعي جيدا عدم الحاجة إلى العودة للشعوب في عالمنا العربي، في أمور تسيير السياسات الخارجية وربما الداخلية أيضا، بل بلغ الأمر مداه بإنكار رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة معرفته المسبقة بهذا اللقاء أو غيره، وهو ما دعاه إلى زيارة السفارة الفلسطينية في طرابلس لتجديد دعم بلاده للقضية الفلسطينية.

الغريب أن مثل هذه الأخبار المتعلقة بالهرولة العربية نحو إسرائيل، تتواتر في ظل أجواء وسياسات فصل عنصري وإرهاب إسرائيلي غير مسبوق اتجاه الشعب الفلسطيني ومصادرة أراضيه في الضفة الغربية والقدس، وعمليات قتل يومية في صفوف المواطنين هناك، ليس برصاص قوات الاحتلال فقط، وإنما برصاص المستوطنين أيضا في حماية هذه القوات، وبتحريض من وزراء مارقين في الحكومة الحالية الأكثر تطرفًا من كل الحكومات السابقة.

الأزمة العربية هنا تتمثل في أمرين مهمين، الأول منهما: هو أن معظم العواصم العربية أصبحت ترى أن العلاقات مع إسرائيل تساهم في إرساء الأمن والاستقرار لديها، واستمرار نظم الحكم، خصوصا إذا كانت هذه النظم تترنح أو تبحث عن شرعية في العواصم الخارجية، وخاصة الأمريكية والغربية، في وجود يقين بأن هذه العواصم الخارجية تستطيع الانقلاب على هذه الأنظمة وقتما تشاء، بل تستطيع استخدام الشعوب في هذا الصدد، من خلال التغلغل في الأوساط المختلفة، وخاصة النخبوية والعسكرية منها.

الأمر الثاني، هو أن هذا التكالب على العلاقات مع دولة الاحتلال يوضح إلى أي مدى تراجعت القضية الفلسطينية في سجل الأولويات العربية، ذلك أن المقاومة الفلسطينية لم تعد تحصل على أي دعم عربي، ولو من خلال التصريحات والبيانات المؤيدة للنضال الفلسطيني، بما يشير إلى أن عملية تحرير الأرض من خلال المقاومة المسلحة، لم تعد استراتيجية عربية، على الرغم من رفض دولة الاحتلال لكل المبادرات السلمية المطروحة، المتعلقة بحل الدولتين، بل إنها تسعى حاليًّا إلى مزيد من مصادرة الأراضي بالضفة الغربية، بما يستحيل معه إقامة أي كيان فلسطيني مستقل في المستقبل.

ويمكن التأكيد على أن هذا التراجع الفلسطيني في الأولويات العربية كان سببًا رئيسيًّا في تمادي حكومات الاحتلال المتعاقبة في غيّها وتطرفها، ذلك أنها لم تعد تقبل بأي مباحثات من شأنها حل القضية الفلسطينية حلًّا عادلًا، كما لم تعد تقبل بأي مبادرات في هذا الشأن، في الوقت الذي تتكشف فيه بين الحين والآخر اتصالات محمومة بين عواصم عربية وإسرائيل، لم تعد تكتفي بلقاءات في عواصم محايدة، بل أصبحت هناك زيارات متبادلة، بعضها في العلن ومعظمها سرية، بترتيبات غربية في معظم الأحيان.

تطبيع السودان

يمكننا في هذا الإطار أن نتذكر زيارة الوفد العسكري التابع لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع بالسودان لإسرائيل قبل بدء عملية التمرد على الجيش التي يقودها الآن، وكان يرأس الوفد شقيقه الفريق عبد الرحيم حمدان دقلو، أحد كبار أعضاء مجلس السيادة، وهو ما رآه المراقبون محاولة للحصول على مباركة إسرائيلية قبل بدء عملية التمرد، وهو الأمر الذي جعل البعض يرى في تواصل الحكومة الليبية الحالية برئاسة الدبيبة محاولة أيضا للحصول على دعم إسرائيلي في مواجهة القوى المناوئة هناك بقيادة المشير خليفة حفتر.

تبقى الإشارة إلى أن هذا الرفض الشعبي الليبي لما جرى، الذي بلغ حد الاحتجاجات والمظاهرات وإشعال النيران أمام وزارة الخارجية في طرابلس، يعود السبب فيه بالدرجة الأولى إلى التنشئة الوطنية والعروبية في عهد العقيد الراحل معمر القذافي، إعلاميًّا وتعليميًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، إلا أنها تمثل في نهاية الأمر بقايا لروح قومية تتحلل وتتبخر الآن ربما في كل العواصم العربية، بحكم عوامل كثيرة تؤكد أننا أمام أزمة عربية حقيقية، وتشير إلى جرس إنذار واضح يتعلق بضياع الحقوق الفلسطينية بمباركة عربية رسمية.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان