صدام “القومجية” بقمة “بريكس” ومجموعة الـ20

غاب رئيس الصين شي جين بينغ عن قمة مجموعة العشرين التي انعقدت عطلة الأسبوع في الهند، لمناقشة أهم القضايا الاقتصادية والأمنية والمناخية في العالم. فسَّر البعض غياب “شي” بأنه مريض. يرى صينيون أنه متفرغ للإشراف على إعداد احتفالات بيجين، بمناسبة مرور 10 سنوات على مبادرته “الحزام والطريق” الشهر المقبل، التي يعُدها منهجًا للحوكمة العالمية الجديدة.
كتب محللون عن رغبة “شي” في التفرغ لحل مشكلات اقتصاده الذي يواجه ورطة عميقة، مع تراجع النمو وارتفاع البطالة وحالة تذمر من سوء المعيشة. يبدي البعض اهتمامًا برغبة “شي” في حرمان غريمه “مودي” رئيس وزراء الهند من فرصة توظيف قمة العشرين لصالحه، التي شارك بها قادة الولايات المتحدة واليابان وفرنسا وألمانيا وكوريا الجنوبية، وممثلو 125 دولة نامية، وعدم إظهار قدرة الهند على القيام بدور دبلوماسي وجيوسياسي، ينافس دور الصين بوصفها قطبًا صاعدًا يزاحم القطب الأمريكي على قمة العالم.
غياب “شي” الغامض
لم يفسر الصينيون رسميًّا غياب “شي” عن القمة، فتركوا الساحة مفتوحة لكل التأويلات. ترك غيابه علامة استفهام كبيرة، وهو الذي اعتاد حضور كل القمم، منذ توليه السلطة عام 2013. عندما استضافت الصين القمة 2016، بمنتجع “هانغتشو” السياحي، حاضنة الشركات والمراكز التكنولوجية المتقدمة شرقي البلاد، دفع بإمكانات الدولة ليطلع ضيوفه على الإبداع الصيني الحديث وجمال الطبيعة وآثار الماضي العريق.
سخّر “شي” وسائل الإعلام بالداخل، لجعل استضافة قمة العشرين حدثًا قوميًّا، وفي الخارج أنفق مليارات الدولارات، لوضع أحداثه على قمة نشرات الأخبار والبرامج اليومية. استضافت سفارة الصين بالقاهرة ووسائل الإعلام الحكومية عشرات الندوات، قبل القمة وأثناءها، مستغلة مشاركة قادة عرب بها، للتبشير بأنها الفرصة الأخيرة، التي يلتقي فيها قادة الدول الكبرى، بممثلي الدول النامية والاقتصادات الناشئة، لجعل العالم أكثر عدالة وازدهارًا.
هوية “القومجية”
تفسر إحدى النظريات غياب “شي” بأنه انعكاس للخلاف الذي يشعر به مع الهند، في قمة “بريكس 15” التي عُقدت بجنوب إفريقيا أخيرًا. فالصين لا تريد أن تمتلك الهند -التي تدير نزاعًا عنيفًا على طول حدودها لمسافة آلاف الكيلومترات- أجندة متماسكة، تتحول بها إلى قوة سياسية مؤثرة في الشؤون العالمية.
تُظهر أخرى أن “شي” يرى أن غيابه عن قمة العشرين ترك فراغًا يلاحظه العالم، بما يُظهر خطوط صدع بين القوى الكبرى، ويقلل من قيمة قمة العشرين، ويحد من قدرة قادتها على إصدار بيان ختامي، يحدد مسارات المستقبل، دون موافقة مباشرة من الصين، لا سيما أن الرئيس الروسي بوتين استبق غياب “شي” باعتذار عن الحضور.
تظل الأسباب الحقيقية لغياب “شي” عن قمة العشرين رهنًا لفهم الحالة النفسية لقائدين، ينتميان إلى المدرسة الفكرية للقوميين المتعصبين، الذي يصنعون من القومية رداءً يُشكل قراراتهم وتصرفاتهم التي يفرضونها جبرًا على الآخرين، وتنعكس بشدة على أسلوب إدارتهم للمنظمات والكيانات الدولية وعلى رأسها “بريكس”.
هذه الخلفية المتطابقة في هوية “القومجية” ستدفع الطرفين إلى صدام دائم، يُشكل خطورة على من حولهم حاليًّا وفي المستقبل.
أمراء الحزب الشيوعي
جاء تصعيد “شي” إلى السلطة، في إطار نزعة حزبية لتولية أبناء أمراء الحزب الشيوعي، الذين عملوا على تقوية دعائمه وتوسيع قاعدته، من بين الأسر والقيادات التي شاركت في بنائه، خوفًا من تغول رجال الأعمال والتكنوقراط، الذين سُمح لهم بممارسة العمل الحزبي، فترة الصعود الاقتصادي، بتسعينيات القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الـ21.
عكست توجهات الحزب مخاوف قادته الجدد، من تسرب الأفكار حول حرية الأسواق وديمقراطية الإدارة إلى داخل النظام السياسي للحزب القائم على الولاء والطاعة، فأسرعوا بتغيير الدستور والقوانين بما يسمح ببقاء الرئيس في منصبه بدون سقف.
أدار “شي” حملة واسعة لنشر الروح القومية المتعصبة. ألغى القيادة الجماعية الداخلية لشؤون الحزب، التي كانت تسمح بالنقد الذاتي وخروج بعض الأفكار المخالفة على الملأ بالصحف والمقابلات التلفزيونية الرسمية. لم يعد هناك صوت يُسمع إلا صوت “شي” المرشد الأعلى والقائد الملهم الذي يدير نخبة من القوميين المهووسين بالسيطرة على المثقفين والمهنيين واضطهاد الأقليات العرقية والدينية، ويقمعون الآراء المخالفة بالجامعات ومراكز البحوث وبين رجال الأعمال، ويغلق الصحف ويلاحق الصحفيين والمعارضين بالداخل والخارج.
“مودي” الهندوسي المتطرف
تُمثل رئاسة الهند للقمة، رغبة جامحة من رئيس وزرائها في استعادة دور بدأته بلاده عام 1947، حينما شاركت في تأسيس حركة عدم الانحياز. يتفاخر “مودي” بحزبه الهندوسي القومي المتطرف، الذي يقود حملات اضطهاد وتطهير عرقي ضد المسلمين مثل غريمه “شي”، دون خوف من عقاب داخلي أو مساءلة دولية.
يرى “مودي” الهند دولة ذات حضارة قديمة وشابة، أصبحت الأكثر عددًا، منذ يوليو/تموز الماضي، أهّلها للحصول على ثقة 125 دولة، لتتحدث بصوت دول الجنوب بمجموعة العشرين. طلب “مودي” ضم الاتحاد الإفريقي الممثل لـ55 دولة، إلى عضوية القمة، وإعادة هيكلة الديون وإصلاح ممارسات الإقراض المتعددة الأطراف، بما يتعارض مع مصالح الصين التي تملك 50% من قروض الدول النامية والمتعثرة.
على خطى “شي” عندما نظم الاجتماعات التمهيدية وقمة العشرين في الصين، سار “مودي” فألزم 60 مدينة بوضع شعارات هندية عن القمة على الطرق وميادين جميع الولايات الـ28. امتلأت وسائل الإعلام بصور تُظهر “مودي” بأنه قائد دول الجنوب بالقمة. يُسوّق الإعلام صورة مشرقة للبضائع الهندية وللزعيم “مودي”، وهو يقفز باقتصاد البلاد، لتصبح الأسرع نموًّا من بين الاقتصادات الكبرى.
تمنح القمة رئيس الوزراء الموجود في السلطة منذ فترتين، فرصة للظهور كرجل دولة قوي، والهند على أبواب انتخابات عامة منتصف العام المقبل 2024، ليحتفظ بالسلطة لفترة ثالثة أسوة بـ”شي”، المستمر في مقعده حتى 2028، وربما إلى الأبد.
من اللافت أن استطلاعًا حديثًا أجراه مركز “بيو” الأمريكي للأبحاث، أظهر أن 68% من الهنود يشعرون بأن دور بلدهم ينمو أثره على الساحة العالمية، وهي تقل نسبيًّا عن معدلات شهدتها الصين عقب أولمبياد بيجين عام 2008، التي أشرف عليها شي جين بينغ فدفعت به إلى السلطة، ممثلًا للقوميين الجدد.