جاسوس في منزل الزعيم!

قد يكون أشرف مروان جاسوسًا، وقد لا يكون، لكن لا يمكن لأي عاقل أن يقترب من ذكر اسم جمال عبد الناصر في الموضوع

أشرف مروان (1944-2007)، صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر
أشرف مروان (1944-2007)، صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (أرشيف)

 

لا يزال الغموض الكبير يحيط بما حدث في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، خاصة مع عدم خروج أي وثائق مصرية أو عربية عما حدث من استعداد، وكيف انتصر العرب في حرب الست ساعات سواء على الجبهة السورية أو المصرية.

يتم أيضًا إخفاء محاضر ومناقشات ما حدث في القيادة المصرية، وخاصة ما يتعلق بتطورات الأحداث على الجبهة، وأيضًا خلاف الرئيس المصري مع رئيس أركان الجيش سعد الدين الشاذلي بشأن تطوير الهجوم والموقف من الثغرة وكيف حدثت.

لا يبقى أمامنا -مصريين وعربًا- إلا الوثائق الصهيونية، وثائق العدو، ولا يبقى للمحللين المصريين والعرب إلا مصادر يصدرها لهم الأعداء، تلك المصادر التي لا يمكن لأي عربي صادق إلا أن يتعامل معها بكثير من الحذر، فمهما كانت واقعيتها إلا أنه صادرة عن طرف طمع في أرض عربية.

الكيان الصهيوني صدَّر لنا منذ أيام ما سمّاه وثائق حرب يوم الغفران كما يسميه الصهاينة، وبعيدًا عن تفاصيل الوثائق التي تحتاج إلى عقل واع وقلب صاف للتعامل معها، أثارني إعادة النقاش حول جاسوسية أشرف مروان زوج منى عبد الناصر وصهر الزعيم المصري جمال عبد الناصر.

انتهز البعض من أعداء عبد الناصر والمختلفين معه الفرصة للنهش في جسده الذي ووري التراب قبل 53 عامًا، ولا مانع من التلميح بجاسوسيته شخصيًّا للأعداء، فما أكثر من يحاول التملص من مسؤولياته بإلقائها على الغير.

مرة أخرى، أقول إن الكتابة في موضوع كهذا ليست دفاعًا عن عبد الناصر، فالرجل ليس بحاجة إلى دفاعي أو دفاع آخرين عنه، ولو كانت مثل هذه المعلومة لدى أعداء عبد الناصر وأمته لتغنى بها كل الشعراء والمغنين، وصارت كتبًا وروايات، وأفلامًا سينمائية تُنتج على مدار الساعة، التاريخ وحده كفيل بالرد على مثل هذا، وبقاء عبد الناصر رغم معارك الكثير من الأعداء في وجدان الأمة خير رد.

أشرف مروان جاسوس

هل يمكن أن يكون أشرف مروان جاسوسًا؟ سؤال منطقي جدًّا، ولا أستبعد أن يكون كذلك رغم تأكيد الدولة في مصر أنه عميل مزدوج، وأنه كان يعمل تحت عين ومسؤولية المخابرات المصرية، لا أستبعد ذلك رغم ما بين سطور الوثائق من تناقض أو معلومات تنفي ذلك.

مثلًا مما نُشر أن مروان أخبر الموساد الإسرائيلي بثلاثة مواعيد للحرب، نهاية 1972، إبريل/نيسان 1973، والثالثة الأخيرة عن حرب السادس من أكتوبر، فهل كانت تلك المعلومات ضمن خطة خداع الحرب؟ ربما، أما اعتراف مخابرات الكيان الصهيوني بأن مروان عميل خالص لهم، فكانت على لسان رئيس الموساد الحالي فقط، ولم ترد هذه المعلومة أو هذا الكلام على لسان من سبقوه، هذا الكلام من الوثائق المسرَّبة وليس من أي مصدر آخر.

نعود إلى السؤال نفسه: رغم هذه المعلومة التي تسمح للعقل الواعي أن يفكر وللقلب الصافي أن يرى ويدرك، هل يمكن أن يكون مروان الصهر والزوج جاسوسًا؟ أجيب بكل ثقة: ممكن ومتاح ومتكرر تاريخيًّا، فليس هناك نجاح أكثر من أن تجد رجلًا في قرب مروان له طموحات وتستطيع إغواءه وإغراءه بالمال أو السلطة أو النفوذ ليكون عميلًا وجاسوسًا لك، وعليك أن تقدّم كل ما تستطيع له لكي يكون معك.

لكن هل خضع رجل مثل مروان لتلك الإغراءات؟ وارد جدًّا وليس بعيدًا، لكن هل هذا يشين جمال عبد الناصر؟ الإجابة هنا لا قاطعة، لا شيء يمكن أن يشين جمال عبد الناصر إلا أفعال جمال عبد الناصر فقط “ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى” و”كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينة”.

استقامة الخط

عندما نحكم على الأشياء، علينا أن نمد الخطوط على استقامتها، ليكون لدينا فرص للنجاح في الوصول بدعوتنا إلى عقل المتلقي، ولمن يحاول إقناعي دائمًا ما أقول “احترم أن لي عقلًا يفكر”، وعندما تقتطع جزءًا من حديث وتضعه خارج السياق، لا تلمني أن أكذبك أو لا أصدقك، وفي مسألة مروان وجاسوسيته واحتمالات كونها حقيقة وربما يكون عقلك متأكدًا منها، فهذا حقك كاملًا، ولكن ليس من حقك أن تقول إن عبد الناصر مسؤول عنها.

إن كنت تتهم عبد الناصر لأنه صهر أشرف مروان الجاسوس، حسب عقلك، فعليك أن تعود إلى التاريخ وتتهم الكثيرين بالغفلة، وأنهم كانوا جواسيس للأعداء، هل يمكن مثلًا أن تكون غفلة مروان بن عبد الملك عن الفرس الذين يمرحون في قصور الخلافة ويكتبون رسائله للولاة باللغة الفارسية أو الرومية وهو لا يعرفها ولا يعرف ماذا يكتبون من أوامر وهل تلك الأوراق تحمل تعليماته أم لا، هل يمكن أن نسمي هذا خيانة مثلًا؟ هل الخادم الذي قرّبه الراشد عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل وقتله في منزله، يشين العادل الأمثل حفيد الفاروق عمر بن الخطاب.

نمضي في هذا التاريخ، وأقول لك: هل كان هناك أقرب من يحيى البرمكي لهارون الرشيد، وأترك لك القصة تستكملها لتعرف ماذا فعل البرمكي، بل إن هناك موقفًا واحدًا أكتبه لك هنا، ألم يكن البرامكة سببًا في قتال ابني هارون (الأمين والمأمون) أربع سنوات وانتهت تلك المسألة بمقتل الأمين، ماذا تسمي هذا؟ فما أقرب من كانوا يخدمون الأعداء بين ظهورنا على مدار التاريخ في عصر كل الدول الإسلامية، أموية، عباسية، فاطمية، أيوبية، مملوكية، عثمانية.

هل وجود أناس يعملون في أقرب مكان للسلاطين والخلفاء يعني أن هؤلاء الذين بنوا التاريخ العريق لنا كانوا يعملون مع الأعداء؟ الإجابة أيضًا هنا: لا قاطعة، فلا يمكن أن نتهم أولئك بتلك الفرية.

آخر مثال يمكن أن تعود إليه في عصر الخلافة، لك أن تبحث عنه، هو عصر الدولة العثمانية، اقرأ التاريخ الأقرب فقط، لتعرف أن هناك أيضًا في قصور الخلافة من كان يعمل لصالح أعداء هذه الأمة، ولعل المثال الذي أردده دائمًا هو إبراهيم البرغالي، صهر السلطان سليمان القانوني وزوج أخته السلطانة خديجة، والصدر الأعظم للدولة العثمانية، فهل هذا يشين السلطان العظيم الذي جعل الأمة الإسلامية القوة العظمى في العالم؟ أيضًا ستكون الإجابة قاطعة: لا.

لا القرب يجعل الخائن يشين الخليفة ولا الزعيم، لكنها الغفلة التي يجب أن تعيها وأنت تحاول أن تنظر إلى المستقبل لتبني أمة تستعيد ماضيها، وتتسيد على الأقل مساحتها الجغرافية.

وأخيرًا، قد يكون مروان جاسوسًا، وقد لا يكون، لا أستبعد الأولى، ولا أؤكد الثانية، لكن رغم ذلك، لا يمكن لأي عاقل أن يقترب من ذكر اسم جمال عبد الناصر في الموضوع.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان