30 عاما بمصيدة “أوسلو” وكتاب “ياسين” الجديد

فاجأت أقسام الشؤون العربية والخارجية بدور الصحف في القاهرة “كالأهرام” أنباء “اتفاق أوسلو/إعلان المبادئ حول الحكم الذاتي الانتقالي” بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي تتدفق مع أجراس آلات وكالات الأنباء الغربية العالمية المسماة وقتها “التيكرز”، معلنة باهتمام عن موعد توقيع الاتفاق بالبيت الأبيض 13 سبتمبر/أيلول 1993. واليوم وبعد مرور 30 عامًا، لا يغيب عن الذهن وقع المفاجأة والارتباك علينا كصحفيين نكتب لسنوات عن القضية الفلسطينية، ونتابع تطوراتها.
وربما لم تكن القاهرة الرسمية بدورها تعلم بقناة التفاوض الخلفية السرية التي انخرط فيها الزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” والمجموعة المقربة منه بعيدًا في “أوسلو” لنحو ثمانية أشهر ويزيد، وكما قيل لنا من مصادر الفصائل الفلسطينية والخارجية المصرية وقتها، أو علمت ولم تصرح. وهذا بينما كنا كالجميع نترقب ما يجري في مفاوضات علنية تحت الأضواء بواشنطن، يقود خلالها الوفد الفلسطيني شخصية وطنية مستقلة ومن الداخل/قطاع غزة “د. حيدر عبد الشافي”. وهو الاسم الذي أهدى إليه المؤرخ والكاتب الفلسطيني المقيم في القاهرة “عبد القادر ياسين” أحدث كتبه “الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين”، الصادر من “مركز الوحدة العربية” في بيروت قبل أشهر معدودة. وقد جاء الإهداء لكتاب بمثابة السفر (767 صفحة) على النحو التالي: “وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.. إلى روح حيدر عبد الشافي رمزًا وطنيًّا صلبًا وجسورًا”.
التاريخ كعلم وسلاح للشعوب
وتنبع أهمية الكتاب في معالجته حقبة ممتدة من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدء تنفيذ المشروع الصهيوني الاستعماري نهاية القرن التاسع عشر وصولًا إلى “أوسلو” وتداعياتها وحتى اندلاع انتفاضة الأقصى 28 سبتمبر 2000، وإن كان من غير الممكن أو المطلوب ذكر وتوثيق جميع الأحداث والوقائع. كما للكتاب تميزه من حيث تفسير التحولات والصراعات السياسية استنادًا إلى تحليل القوى الاجتماعية وواقعها الاقتصادي، وفي سياقاتها الإقليمية والدولية، وهو المنهج الذي اعتمده الكاتب منذ بواكير دراساته وكتبه المنشورة عن تاريخ بلاده الحديث والمعاصر بدءًا من نهاية الستينيات. وأيضًا لاشتباكه بجسارة وكمثقف عضوي مع معارك الوعي بحقائق تاريخ الشعب الفلسطيني ونضالاته، التي لم تتوقف. وهل للشباب الذي كان بالجامعات المصرية عند زيارة “السادات” للقدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1976، ألا يتذكر كتاب “شبهات حول الثورة الفلسطينية” الصادر من القاهرة؟ متصديًا ومفندًا ببساطة ووضوح وبحقائق التاريخ ومصادر موثوقة، لمرتكزات الحملة الإعلامية الدعائية الرسمية الممهدة والمصاحبة لهذه الزيارة، ولما لحق بها من خطوات قادت إلى معاهدة الصلح بين القاهرة وتل أبيب في مارس/آذار 1979.
يسبق معالجة الكتاب الجديد “لأوسلو” مدخل و16 فصلًا، فضلًا عن مقدمة تناقش مفهوم وقضايا التاريخ كعلم يفسر الأحداث ولا يكتفى بسردها، وعلى نحو يمنح الشعوب والقوى الاجتماعية الساعية إلى التحرر سلاحًا في معارك الحاضر والمستقبل. وإذا جاز لنا أن نستخلص بعض العبر من تتبُّع وتحليل هذا الكتاب لسمات وتطور الحركة الوطنية الفلسطينية، لتنبهنا إلى أن قيادتها السياسية من كبار المُلاك شبه الإقطاعيين ثم ما سمّاه “البرجوازية الرثة غير المؤهلة لإقامة الديمقراطية” كانت وظلت عبئًا على النضالات الشعبية، بما في ذلك الكفاح المسلح الذي انطلق مبكرًا منذ عام 1920. وقد اتسم أداء هذه القيادة بالرهان الخاسر دومًا على الاستعمار العالمي الراعي للمشروع الصهيوني، وبالعفوية والتخبط وعدم التخطيط، وكذا الافتقاد إلى برنامج سياسي عسكري، وتخلّيها عنه بعدما توفر وحظي باتفاق واسع بعد حرب 1967 تحت عنوان “الدولة الديمقراطية لكل مواطنيها من عرب ويهود على كامل فلسطين التاريخية”، ثم “دولة فلسطين المستقلة على الضفة الغربية والقطاع والقدس” بدءًا من عام 1988 خصوصًا.
“أوسلو” بين الزواج والزنى
يؤرخ الكتاب ويوثق بالمصادر المطبوعة حينها، ملابسات “أوسلو” وأسبابها وسياقها وردود الفعل عليها ومعارضاتها وعواقبها وحصادها، ومسار ما أنتجته من “سلطة للحكم الذاتي” في الضفة والقطاع. ولسنا بحاجة إلى تأكيد فشل القيادة الفلسطينية ولليوم، وليس فقط مدة الحكم الذاتي المنصوص عليها بالاتفاق (خمس سنوات)، في إلزام الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالوفاء بالالتزامات لإنهاء احتلال الضفة، والقبول بإقامة الدولة الفلسطينية، وحل قضايا الاستيطان الصهيوني والقدس واللاجئين والحدود. وتفيد دروس هذا التأريخ والتوثيق بالعواقب الكارثية فلسطينيًّا وعربيًّا لغياب الديمقراطية وتجاهل المؤسسات ولانفراد “القائد/الزعيم” ومجموعته بالقرار. وهنا على نحو خاص، الالتفاف على الوفد الفلسطيني المفاوض في العلن من مدريد إلى واشنطن، والاستهانة بالرأي العام، وتغييب اللجنة التنفيذية للمنظمة والمجلس الوطني الفلسطيني (كمؤسسات) قبل توقيع الاتفاق، وإهدار المظلة الدولية للقضية الفلسطينية ومرجعياتها، مما تسبب في إضعاف القضية.
ويرسم الكتاب صورة بانورامية لدوافع “عرفات”، ومن بينها فقدان القيادة الفلسطينية (فتح/منظمة التحرير) للحاضنة العربية من الأردن إلى مصر إلى لبنان وسوريا، وصولًا إلى الخليج العربي بعد خطأ الانحياز إلى غزو “صدام” للكويت. وعلاوة على هذا، كان لهذه القيادة مخاوفها الذاتية من تزايد ثقل قيادات الداخل جراء انتفاضة (87 :1990)، وصعود شعبية حركة “حماس” في القطاع والضفة.
وفي سياق ردود الفعل، يلفت النظر وإلى اليوم ما يوثقه الكتاب، ومن بينها نُذكّر بما قاله الشهيد الشيخ أحمد ياسين مؤسس “حماس” ناصحًا عرفات في حديث نشرته مجلة الوسط بلندن في 1 نوفمبر 1993: “من لا يستطيع الزواج لا يحل له الزنى”، مع تعهده بمنع الصراع الدموي بين صفوف الشعب الفلسطيني. أما الملك حسين عاهل الأردن فتساءل وقتها: “لماذا مرحلة انتقالية؟ وانتقالية إلى ماذا؟”، وقال الرئيس السوري حافظ الأسد: “كل نقطة في الاتفاق تحتاج إلى اتفاق، وعرفات أدخل نفسه إلى سجن كبير”.
ثنائية التنازلات والقمع
ويسمح تدبّر ما جرى بعد توقيع اتفاق “أوسلو” وتأريخ الكتاب لهذه المرحلة، باستنتاج مفاده أن كل اتفاق خارج الديمقراطية والمؤسسات وينطوي على تنازلات غير مقبولة شعبيًّا، يحمل القيادة المُوقعة عليه للتورط في المزيد من القمع والفساد. وهي تمامًا خبرة السنوات الأربع الأخيرة لحكم السادات في مصر، خلال مسار “كامب ديفيد”. وفي السياق الفلسطيني، يرصد الكتاب كيف حملت سلطة الحكم الذاتي سريعًا معها هذه الجرثومة. وعلى سبيل المثال، يوثق منع توزيع عدد من الصحف في مناطق الحكم الذاتي، وقمع المظاهرات الشعبية المعارضة وقتل متظاهرين، والاعتقالات والتعذيب ومحاكم أمن الدولة، واتهام الحقوقيين المعترضين بأنهم يعملون لمنظمات أجنبية مشبوهة. وأما بخصوص الفساد والمحسوبية وغياب الرقابة على الأموال والمساعدات الدولية، فيكفي توثيق الكتاب لتصريح وزير العدل فريح أبو مدين في حوار مع مجلة (دراسات فلسطينية) بالعدد 30 ربيع 1997: “نعم هناك استغلال للنفوذ والسلطة، لكن لم يحن الأوان بعد للنزول من جبل أحد، فما زال المشروع الفلسطيني في بدايات الطريق”.
***
وحتى عرفات نفسه، دفع بدوره -رغم كل مسؤوليته وأخطائه- ثمن “أوسلو” من حياته، وبعدما خذله مفاوضوه الإسرائيليون ورعاتهم الأمريكيون، وانتهى محاصرًا في “رام الله”، ومسمومًا شهيدًا في 11 نوفمبر 2004. ولم تشفع تنازلات اعترافه بإسرائيل والقبول بالصهيونية وبشطب الكفاح المسلح من ميثاق منظمة التحرير. والحقيقة أن جزاء سنمار جاء عاجلًا بعد أشهر قليلة من توقيع الاتفاق، فبحلول 25 فبراير/شباط 1994، ارتكب صهيوني مجزرة الحرم الإبراهيمي بالخليل، وفي مايو/أيار من العام نفسه، أعطى الناخبون الصهاينة أغلبية في انتخابات الكنيست لليمين المتشدد بقيادة الليكود/ نتنياهو.
لا يضع “ياسين” (نحو 86 سنة متعه الله بالصحة وطول العمر) خاتمة لكتابه السفر هذا، ولكنه ينهي فصلين مهمين عن “أوسلو” وسنواتها اللاحقة قبل انتفاضة الأقصى بهذا السؤال: “هل كان يمكن لقيادة أن تنتصر، بعدما دخلت مصيدة أعدائها بقدميها؟ ولهذا كتاب آخر، يا من يعيش”.