بناء الثقة.. أشياء لا تشترى

(1) الخوف يقود عالمنا
في افتتاح قمة العشرين، التي استضافتها الهند مؤخرا، أكد رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” أن العالم يعاني أزمة ثقة هائلة عمقتها الحرب وأضاف “لكننا قادرون على التغلب على أزمة الثقة المتبادلة”.
العبارة تبدو طازجة ولامعة، لكنها في الحقيقة جزء من مهارة القادة الذين يدركون أثر الكلمات في الإعلام والعامة، ويختارون بمهارة وعن خبرة عبارات تصلح لأن تكون عناوين براقة لبضاعة راكدة أتلفها الهواء.
فالمسؤول الهندي الذي يسعى في خطابه لبناء الثقة العالمية انضم إلى تحالف مع أستراليا واليابان برعاية أمريكية لتشكيل جبهة موحدة أمام تنامي النفوذ الصيني.
الخوف هو الذي يقود عالمنا المعاصر لأن اليقين بأن القيم الأخلاقية الإنسانية لها القول الفصل في السياسة الدولية أصبح محل شك كبير، كنا نراهن على الحجة العقلانية للأخلاق، بعد أن أقنعنا المصلحون والحكماء بأن الصدق والعدل والمساواة والانتصار للحق مبادئ تحقق السعادة والاستقرار للمجتمعات، لكن أدلتهم تبدو ضعيفة واهنة. ولدهشتنا، فشلت هذه النظريات الأخلاقية في الصمود. وجدنا أن من يفعل العكس في العالم الحقيقي عقابه ليس سريعا ولا مؤكدا. كما أن فعل الصواب، على المدى الطويل، لا يحقق بالضرورة نتائج جيدة، وتفضيل الصواب على الخطأ يمكن أن ينهار في مواجهة الإغراءات وتحقيق المصالح.
في ظل أجواء الشك وعدم اليقين وعدم اعتماد معايير أخلاقية للتعاملات الدولية يبدو الحديث عن بناء الثقة هزليا، فيجب أن تسبقه إعادة هيكلة منظمة الأمم المتحدة لتكون لديها القدرة على عقاب الدول كبيرها وصغيرها إن لم تلتزم بالقانون الدولي وتكون لديها قوة ردع تمارس على كل من يخرج عن الدستور الأخلاقي الأممي.
(2) السلام التائه في دهاليز الظلام
مبعوث بابا الفاتيكان للسلام الكاردينال “ماتيو زوبي”، توجه إلى بكين الثلاثاء الماضي، في محاولة وساطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا عن طريق الصين، هذه ليست المحاولة الأولي من بابا الفاتيكان بل هي الثالثة، إضافة إلى مساع أخرى من الجانب الصيني والإفريقي كما أن هناك زعماء آخرين تحدثوا عن مساع مثيلة، متى إذن تتوقف الحرب وتثمر مساعي السلام؟ رغم تضرر الاقتصاد العالمي من هذه الحرب وما كان لها من تداعيات على ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ونسب التضخم، فإن الطرفين المنخرطين في الحرب: الروسي والغربي يمارسان لعبة كسر العظام والرهان الآن على من يصرخ متألما أولا معلنا استسلامه وعدم قدرته على المواصلة، وكل طرف لديه حجة يبرر بها استمرار الحرب رغم تكاليفها الباهظة على الجميع؛ إذ إنها تعرقل تنفيذ الاستراتيجية الدولية للحد من التغير المناخي التي لها أولوية في الإنفاق للحفاظ على البشرية مما قد يواجها من كوارث بيئية مستقبلا.
لم نتعلم من تجربة كوفيد والعزلة الإجبارية والخسائر الاقتصادية الضخمة التي ترتبت عليها، كما أننا لا ننتبه إلى ما نمتحن به من أعاصير وعواصف وزلازل تؤدي إلى دمار كبير إلى جانب سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى وتشريد الآلاف، رسائل السماء لا تستوقف كثيرا ملوك الحرب وجيوش الموت بل يزدادون عنادا وعتوا، فكل طرف ينظر فقط إلى مصالحه الضيقة ولو احترق العالم حوله ظنا منه أن الحريق لن يصل إليه.
(3) الدفاع يتحول إلى اعتداء
في البداية صنع الإنسان البدائي أدوات حادة ورماحا ليدافع بها عن نفسه أمام الحيوانات المفترسة أو الأعداء، لكنه اكتشف أن هذه الأسلحة يمكن أن يخضع بها آخرين أقل قوة منه ويمكنه أن يستولي بها على ما لديهم من نعم، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف صناعة السلاح بل تزداد فتكا وضراوة يوما بعد يوم، ولم تعد تستخدم فقط للدفاع عن النفس بل للعدوان على الآخرين طمعا فيما لديهم وتوسيعا للنفوذ والهيمنة.
مؤخرا أعلن الرئيس الروسي بوتين أن بلاده تعمل على تطوير سلاح قائم على مبادئ فيزيائية جديدة من شأنه أن يضمن أمن أي بلد في المستقبل القريب. هل ما يقوله صحيح؟ وهل ترسانة الأسلحة تضمن الأمن والأمان؟ هل مثلا يمكن لدول القارة الإفريقية أن تحقق الأمن بشراء مثل هذه الأسلحة أم أن المتبع أن تذهب الأسلحة إلى طرفي النزاع من أبناء الوطن الواحد ليتقاتلوا بحجة الدفاع عن مصلحة الوطن وهم يحولونه بأيديهم إلى ساحة خراب وموت يفر منها المواطنون ليصبحوا بين ليلة وضحاها من اللاجئين. هل يمكن بناء الثقة في إفريقيا وما زال الغرب يتعامل مع القارة السمراء بمعايير مزدوجة وشعور بالتعالي على اعتبار أنها كانت مستعمرتهم السابقة التي أذلوا شعوبها واغتصبوا خيراتها؟ هل تكفي محاولة دول العشرين التقرب من إفريقيا بضمها عضوا على غرار الاتحاد الأوروبي، لبناء الثقة أم أن الأمر يحتاج إلى سنوات طويلة من الصدق والإخلاص والوفاء بالوعود والعهود لتنمو شجرة الثقة التي تحتاج إلى بيئة صالحة للنمو وتروى بالصدق والإخلاص والالتزام بالوعود، وكلها أشياء لا تشترى؟