تكلفة الشكل الديمقراطي.. وضرورة التعامل مع الواقع

الرئيس الرواندي بول كاغامه

لا أستطيع أن أغفر للأنظمة الديكتاتورية ذلك السفه في الإنفاق بالمليارات على (الشكل الديمقراطي)، الإنفاق على انتخابات رئاسية معلومة نتائجها سلفًا، انتخابات برلمانية محددة القوائم مسبقًا، انتخابات محلية كذلك، انتخابات النقابات، انتخابات الشركات، حتى الأندية ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية، إلى غير ذلك من مراسم، لا تستهدف أكثر من الخروج بشكل يحفظ ماء وجه تلك الأنظمة أمام الداخل والخارج في آن واحد، في الوقت الذي تحتاج فيه هذه الدولة أو تلك إلى الفتات، إما لسد الرمق، وإما لسداد الديون، أو هما معًا.

سوف تنتفض تقارير المنظمات الدولية، وبيانات العواصم الخارجية، سوف تتذمر الأحزاب الوهمية في الداخل، وتصريحات العوام والخواص في الشارع، إذا أعلنت أي من هذه الأنظمة مد فترة رئاسية جديدة لرئيس الدولة دون إجراء انتخابات صورية اعتاد عليها المواطن، أو إذا أعلنت أي من هذه الأنظمة عدم الحاجة إلى برلمان وهمي يكلف الموازنة العامة نفقات سنوية تنوء بحملها، أو تعيين أعضاء المجالس المحلية دون إجراء انتخابات، أو عدم الحاجة إلى مجالس إدارات واتحادات طلابية، أو أي شيء من هذا القبيل، الذي ثبت بالدليل القاطع أن وجوده -في الأنظمة الديكتاتورية- كعدمه سواء بسواء.

إلا أن الغريب في الأمر، هو أن الداخل والخارج معًا، لن يعترضا أبدًا على ذلك السفه في الإنفاق على هذه المسرحيات السياسية المبرمجة سلفًا على حساب المواطن الفقير الذي يتضور جوعًا، أو ذلك المريض الذي لا تستطيع الدولة توفير علاجه، أو ذلك الطفل الذي يتسرب من التعليم لعدم المقدرة المادية، أو ذلك الشاب الذي آثر عدم الزواج لعدم الاستطاعة، إلى غير ذلك من قائمة بؤس وضنك لا نهائية، وهو الأمر الذي يتوجب معه إعادة النظر في المنظومة كلها، وذلك بتحديد أولويات هذه المجتمعات، التي تفاجئنا بين الحين والآخر بانقلاب عسكري هنا، أو مظاهرات واحتجاجات هناك، دون أي بوادر أمل تشير إلى تطور من أي نوع، لا فيما يتعلق بالديمقراطية، ولا ما يتعلق بتوفير رغيف خبز كريم على أقل تقدير.

تحت أي ضغط

يجب أن نتعامل مع الأمر الواقع، ونقر بأن هناك أنظمة عسكرية لن تسمح أبدًا بتسليم السلطة إلى رئيس مدني أو إدارة مدنية، حتى لو كانت منتخبة، تحت أي ضغط ولأي سبب أيًا كان، مع الوضع في الاعتبار أن سيطرة الحكم العسكري على مقاليد الأمور بشكل عام، بما يمثله من دولة عميقة، يجعل من السهل إفشال تلك الإدارة المدنية أو الرئيس المدني في أسرع وقت ممكن، وهو ما يؤكد أن المهمة عسيرة إلى الحد الذي يستحيل معه إنجاحها دون عنف أو قلاقل، وفي معظم الأحوال إراقة دماء قد لا يمكن احتواؤها كما هو الحال الآن في بلدان عديدة في المنطقة.

من هنا، فإن الإقرار بالواقع والحرص على الاستقرار وعدم وقوع اضطرابات، وانطلاقًا من مسؤولية وطنية تجاه الأجيال القادمة على أقل تقدير، يتطلب -من وجهة نظر شخصية- عدم مواجهة القوة العسكرية الغاشمة في هذه الدولة أو تلك، والتسليم (والاستسلام) للأمر الواقع، وهو الحاكم العسكري “السَوي”، بترشيح من المجالس العسكرية هناك، من خلال مجموعة من الشروط والمواصفات يتم التوافق عليها مدنيًا وعسكريًا، أرى في مقدمتها -من خلال تجارب الماضي- أن يكون بالدرجة الأولى طبيعيًا، أي يوقن بأنه لا يوجد في العالم ذلك الشخص الذي يفهم في كل شيء ولديه الحلول لكل شيء، يؤمن بالتخصص ودراسات الجدوى، لا يتوهم أنه يكلم الله أو أنه يوحى إليه، يعي أهمية الأمن القومي للوطن، يدرك أن هناك خطوطًا حمرًا لا يمكنه تجاوزها، سواء فيما يتعلق بالدين أو الدنيا، إلى غير ذلك من قواعد عامة تنص عليها الدساتير.

وحتى نكون منصفين، سوف نستشهد بالرئيس الرواندي بول كاغامه، وهو عسكري في المقام الأول، خريج كلية القيادة والأركان العامة للجيش الأمريكي، يتولى الرئاسة في رواندا منذ عام 2000، في أعقاب حرب أهلية طاحنة وإبادة جماعية هي الأسوأ في التاريخ المعاصر استمرت 4 سنوات، إلا أنه نجح في تغيير بلاده بشكل كامل، وأصبحت تجذب المستثمرين من أنحاء العالم، والسياح بشكل ملحوظ، بينما أصبحت العاصمة كيجالي هي الأجمل على مستوى القارة الإفريقية، مع تطور اقتصادي كبير ونسبة نمو هي الأعلى، وكل ذلك بفضل ذلك الرجل العسكري، الذي يجيد لغات عدة، ويؤمن بحق الآخرين في الوجود، وفي إبداء الرأي، محققًا في البداية مصالحة بين الشعب هي الأهم، قبل أن يطلق العنان للعلم والعلماء، والمتخصصين والصناع.

الحالة الراهنة

قد تكون ممارسات العسكر في بعض البلدان، خصوصًا تلك الموغلة في مجالات إهدار حقوق الإنسان، وحرية الرأي والتعبير، والسجون والمعتقلات، قد أسهمت في نشر هذا القدر من الكراهية ضدهم، وقد يكون الفشل الذريع في الإدارة القائمة على قواعد الأمر والنهي وتنفيذ الأوامر ولو كانت خطأً، وقد يكون انعدام الخبرة في المجالات السياسية والاقتصادية، قد يكون أيًا من ذلك أو كل ذلك معًا، قد أسهم بشكل مباشر في نشر هذه الحالة من عدم القناعة بسلطة العسكر وقيادته في المجالات المدنية، إلا أننا يجب أن نعي أن لكل قاعدة استثناء، سواء على الصعيد العسكري أو المدني.

وفي الأحوال كلها، وحتى نأمن تجنب المزيد من التقسيم والتصنيف والاستقطاب، أعتقد أنه يتوجب علينا إعمال لغة العقل والتعامل مع الحالة الراهنة، ذلك أن المواجهة سوف تكون صعبة، بل كارثية، لن يتردد أصحاب المصلحة في القتل وبدم بارد، وفي الماضي القريب شاهدنا الكثير، لن يتنازل الطرف الأقوى المسلح أبدًا للطرف الأضعف الأعزل عن حكم البلاد والعباد في الدول المتخلفة بشكل عام، خصوصًا بعد أن حقق الطرف الأول في هذه الدولة وتلك مكاسب شخصية وجماعية لا حصر لها، ليس أولها زيادات متتالية في الرواتب والمعاشات، وليس آخرها دخول عالم المال والأعمال من أوسع الأبواب، بل أصبح هناك التملك بالأمر المباشر، والتخصيص والاحتكار والهيمنة والاستحواذ والنفوذ والسطوة والقوة، بل والحصانة، إلى غير ذلك مما لم يمكن تحقيقه (في عهود سابقة ثار عليها الناس)!!

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان