القادم: ماذا عسى أن يكون؟
القادم .. ماذا عسى أن يكون؟ القادمُ على منطقتنا العربية وعلى عالمنا الإسلاميّ: شرٌّ هو أم خير؟ موتٌ هو أم حياة؟ مزيدٌ من الانتكاس والارتكاس أم تغييرٌ وتثوير وتجديد وصحوة؟ إيغالٌ في ليل سرمديّ لا يُعْرَف له آخر أم ميلادُ فجر جديد وبزوغُ عهد رشيد؟ أسئلةٌ تتفجر في القلوب وتدوي في العقول، وتتردد أصداؤها في جنبات النفوس؛ مع اتساع رقعة الألم وارتفاع مستوى المعاناة، وامتداد أمواج الفواجع والنكبات، وتصاعد الزفرات من أفواه المنكوبين.
واقع أمتنا بين يأس يتجدد وأمل يتبدد
لا تكاد الشمس تشرق يومًا على عالمنا أو تغيب إلا ويُصَبِّحنا أو يمسّينا خبرٌ لا يَرحم فينا آذانًا تمزقت أغشيتُها ولا قلوبًا تهتكت أوتارُها؛ من قرع الأخبار المفزعة، كأنّ عالَمَنا العربيَّ والإسلاميَّ قد أبرم مع الخطوب والكروب عقدًا وميثاقا ألّا تشرك معه في هذا النكاح الأبديّ السرمديِّ قُطرًا ولا مِصرًا؛ ما هذا الاحتراب الذي يسري كالجرب ويمتد كالسرطان في أقطار الجسد العربيّ؟! ما هذه الأزمات التي تُفتعل لا لشيء إلا لمزيد من تقسيم الْمُقَسَّم وشَرذمة الْمُشَرْذَم، في كل بقعة من أوطاننا مقصلةٌ لقطع أعناق المعارضين، وسجنٌ لقصف أعمار المخالفين، وضباعٌ بشرية تعدو على أقوات الخلق وأرزاق العباد؛ فلا تدع لهم منها إلا ما لا يسمن ولا يغني من جوع؛ فإلى أين يذهب اليأس؛ وقد ظفر بيننا بمرتع لا يأتي عليه خريف، ومربع لا يَعْقُبُهُ صيف؟!
حتى الزلازل والأعاصير وغيرها من الكوارث التي تجري بالمقادير، لا تبرح اليوم ديارنا إلى غيرها إلا لتفيء إليها على عجل، لقد بلغ المصاب إلى حدّ أنّ الهجرة إلى أحضان من يُصَدِّرون لنا الأزمات أمستْ حلمًا يستحق أن يجازف المرء بحياته من أجله؛ فما الخطب بحقّ السماء؟!
مستقبل أمتنا بين يأس يتبدد وأمل يتجدد
هذه هي صورة الواقع؛ مجردةً من الرؤية لما وراء هذا الواقع من معطيات وتدافعات، وسنن ونواميس، ودوائر من التعاطي أوسع، وآماد من التأثيرات أعمق، هذا هو الواقع الذي نراه ونحن أسرى الأحداث، لا نرى ما وراءه إلا بقدر ما يرى الأسير ما وراء جدران زنزانته الضيقة المظلمة، ولو أننا تحررنا من أسر الأحداث، وانطلقنا من عقالها، وحلقنا خارج صندوقها الضيق المظلم لتراءت لنا دوائر هائلة لا يمثل الواقع كله بالنسبة لها إلا قدر ما تمثله رعشة في قشرة الأرض في زاوية من زواياها الصغيرة بالنسبة إلى حركة الأفلاك العظمى داخل مجرتنا العملاقة.
إنَّ المعايير التي تقاس بها المغانم والمغارم في رحى الصراع أوسع بكثير من تلك المقاييس الآنية التي نقايس بها نتائج الأحداث القريبة، ونحن وإن كنَّا على مستوى الأحداث القريبة قد خسرنا الكثير، وإن كانت المؤاخذات على الأداء في جميع تجاربنا صارخة ومزعجة فإنَّ وراء ذلك معايير أخرى تُعايَر بها الأمور على وجه العموم، فدائرة الإسلام تتسع على حساب غيره، ودائرة الفاهمين للحقيقة والعاملين لها تزداد على حساب غيرها، ودائرة الناقمين على الظلم والحانقين على الاستبداد والفساد تتسع على حساب الغافلين المغفلين، والفكرة التي تعد مركزًا لكل هذه الدوائر التي تتسع يوما بعد يوم تزداد عمقًا ورسوخًا وجلاءً ووضوحًا، وفي المقابل جميع المشاريع -من حيث التصورات والاقتناعات- تتراجع لصالح المشروع الإسلاميّ المعتدل الأصيل، وجميع ما تتعلق به البشرية من خيوط النجاة والفلاح والأمن والرفاه يذبل ويضمر ويتهتك.
وإذا كانت المعطيات تشير إلى أنّ الوعي يزداد نضجًا يومًا بعد يوم، وإلى أنّ الغفلة والبلاهة تنقشعان شيئًا فشيئًا عن أعين الخاصة والعامّة، وإلى أنّ الفكرة الإسلامية تزداد كل يوم بريقًا ولمعانًا، وإلى أنّ الرغبة في التحرر والخلاص تتعاظم في النفوس؛ فإنّ كل هذه الإيجابيات التي تُجَدِّد الأمل وتُبَدِّد اليأس لا تكفي إلا لوضع الأقدام على الطريق، فما هي الخطوة الأولى؟
الخطوة الأولى المنسية
لا يكون السعيُ سيرًا نحو الهدف المنشود إذا غابت الخطوة الأولى، التي بدونها لا يُعْرف الطريق ولا يُهتدَى إلى الغاية؛ والخطوة الأولى هي المراجعة والتقويم بصورة جماعية تشاورية، وهي خطوة إنْ حدثت انقلبت المحنةُ منحةً، واستحالت النقمةُ نعمةً، أمّا التجافي عن المكاشفة الجماعية والمصارحة الشورية فإنّه يوقع في معضلاتٍ، أقلُّها ضررًا وخطرًا أن يحل محلَّ المكاشفة والمصارحة التشويهُ والمفاضحة، أمّا أكثرها ضررًا وخطرًا فيتمثل في تغييب الحقائق وتضليل الجيل وإطالة أمد الغفوة التي يعانيها الخلق، ومن لوازم هذه الخطوة أن يتحد أهل العدل ويتعاونوا.
ولا يلزم لتحَقُّق الوحدة الضرورية للخطوة الأولى أن ينصهر الجميع في كيان واحد، ولا أن يندرجوا تحت منصة واحدة، بل ربما اقتضت المصلحة في هذه المرحلة الإبقاء على التعددية، على أن تبقى تعددية تنوع لا تضاد، ويكفي فقط أن نتفق على الثوابت الكبرى والجمل الكلية التي تتفق مع شريعتنا وتتسق مع هويتنا، ثم نترك التفاصيل والتفاريع والأدوات والآليات لاجتهاد كل فصيل، مع استصحاب فنون إدارة الاختلاف وإدارة التعدد وإدارة المشترك.
مواصلة المسير بين البشائر والمحاذير
قد يرى المرءُ الغايةَ بعيدةً؛ فيقعد عن الانطلاق ويتخلف عن المسير، وحتى لا يقع مثل هذا نزل الوحي بتقرير الحقيقة ووضعها بين بشائر ومحاذير: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قريبٌ}؛ فلنكن على يقظة وروية ورشد؛ لئلا نقع في براثن الأمل الزائف ولا في فخاخ اليأس القاتل، ولنكن دائمًا بين البشارة والنذارة، ولنصبر، وليكن يقيننا في الله كبيرًا، وإنَّ غدًا لناظره قريب، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.