العلاوات.. خطوة جيدة لكنها مُسكنات لا تعالج الأزمات الطاحنة

 

أي فائدة تتحصل عليها فئات اجتماعية في مصر من الحكومة أمر جيد، مهما كانت محدودة، شيء أفضل من لا شيء، خاصة عندما تكون منافذ التعبير الطبيعية عن الأزمات والمعاناة مسدودة مثل الإعلام، وقبله البرلمان الذي يُفترض أنه يُمثل الشعب، وليس مؤسسة تابعة للسلطة، فقط مواقع التواصل، والأحاديث الجانبية في الشارع والمجالس هى المتنفس اليوم، هى صوت الشكوى والأنين، بل والتململ الذي لم يعد يمنعه خطوط حمراء أو مخاوف من العقاب الأمني.

لا استقرار حقيقيًّا إلا بتوفر رغيف الخبز بكرامة، ومساحة واسعة من الحرية دون تراجع عنها أو تقليص لها أو تحويلها إلى فخ، فلا يمكن العيش وسط الغلاء المنفلت دون حلول جادة حقيقية لامتصاص هذا الغلاء وتهدئة الأسعار وجعل الحياة ممكنة ومريحة وليست عبئًا وإحباطًا. ويصعب تفهّم أن يُبدي البعض آراءً هادئة، لكنها صريحة وتستهدف مواطن الخلل، ثم يتم القبض عليهم، وعندما يتحدث صوت مستقل للمعلمين مثل د. محمد زهران على منصة الحوار الوطني، ويقول في أربع دقائق أربع عبارات هدفها إنصاف المعلمين وبث الحياة في نقابتهم، وعندما يشير إلى بعض السلبيات ويتم اعتقاله، فماذا نفهم من ذلك غير أن لا أحد آمِن وليس حرًّا حتى لو كان ضمن المتحدثين في محفل دعا إليه رئيس الدولة، ويتم الترويج لهذا المحفل بأن فيه الانطلاق نحو جمهورية جديدة.

حزمة الحماية الاجتماعية

السبت الماضي، قدّمت السلطة حزمة من العلاوات والزيادات في الرواتب والمعاشات، وتخفيضات في الضرائب للعاملين بالدولة والقطاع الخاص، والتخفيف على أصحاب قروض البنك الزراعي، وهو أمر مقبول، حتى لو كانت هذه الحزمة من الحماية الاجتماعية محدودة ومثل المُسكّن، ولا تفي بالغرض ولا تكافئ التضخم الذي تجاوز 40%، وربما هو في الواقع أكبر من هذه النسبة، إنما ما العمل إذا لم يتم تقديم هذه الحزمة؟

لا عمل، فلم يكن ليحدث أي شيء غير عادي، فالناس تتعايش مع الواقع مهما كانت مصاعبه، وتتفاهم سريعًا مع الأوضاع وتنسج نوعًا من التطبيع مع الأزمات، وهذا دأب الشعب المصري طوال تاريخه في الصبر والجلد والتحمل، إنما لم تكن الأحوال المعيشية والاجتماعية على الدرجة الراهنة نفسها من الشدة والضيق.

الحقيقة أن أحدًا لم يكن يتوقع علاوات استثنائية هذه الأيام، إنما كان هناك الاستبشار الموروث بأنه مع الاستحقاقات الرئاسية سواء كانت استفتاءات سابقة أو انتخابات حالية فإن السلطة تفتح الخزائن وتدبّر المال، وتقدّم بعض المنح والتيسيرات والتسهيلات في مجالات مختلفة، وتتسامح بهدف إشاعة أجواء من التفاؤل أو السرور، وعائد ذلك يتم حصده في الحشد للانتخابات وبين أوراق التصويت.

ماذا تفعل الـ300 جنيه؟

وهنا المشكلة أن يكون التخفيف من المعاناة مرتبطًا بظرف سياسي معيَّن، وليس خطوة ضمن خطة لمعالجة جذرية للأزمة الطاحنة بكل شمولها وتفرعاتها ولهيبها، ففي الخطاب الإعلامي السلطوي أن العلاوات الأخيرة هى الرابعة خلال عامين، وهذا صحيح، لكن ما النتيجة؟ الحزم الاجتماعية يلتهمها فورًا الغلاء والتضخم وضعف القوة الشرائية للجنيه.

والأهم ماذا تفعل علاوة قدرها 300 جنيه لعامل وموظف وصاحب معاش؟ ومن هو خارج جهاز الدولة فإنه يرفع فاتورة أشغاله وخدماته.

هذا مبلغ قليل قد لا يكفي لتغطية نفقات الطعام ليوم واحد لعائلة، في ظل ارتفاعات متواصلة لأسعار الغذاء في بلد لم يكن الغذاء يُمثل أي مشكلة فيه ولم يكن هاجسًا مؤرقًا، ولم يكن يومًا أكثر المتشائمين يتصور أن يصل كيلو البصل إلى 30 جنيهًا، والسمك البلطي 85 جنيهًا، واللحم 350 جنيهًا، وكيلو دجاج المزارع 77 جنيهًا، والأرز 20 جنيهًا، والسكر 30 جنيهًا، والعدس 50 جنيهًا، والطماطم تقفز حاليًّا فوق 20 جنيها للكيلو، وأنا الذي عاصرتها بـ5 قروش.

ليست هناك ضرورة لتقديم قائمة بأسعار السلع الغذائية ولا أسعار المنتجات والخدمات في كل القطاعات، حيث ترتفع كلها بشكل كبير وغير مفهوم، ودون استثناء لسلعة أو خدمة واحدة.

التقشف والتنمية المدروسة

أفهم أن السلطة تواجه أزمات عديدة، منها الأزمة المالية وندرة العملات الصعبة لتمويل الواردات وتسديد أقساط الديون وفوائدها، وهذا عبء هائل بسبب قائمة الديون الضخمة غير المسبوقة؛ خارجية وداخلية.

ولهذا تقول وزارة المالية إن تكلفة حزمة الحماية الاجتماعية تبلغ 60 مليار جنيه، وإعلان الرقم لا يعني إعلامنا به فقط، إنما الإشارة إلى أن الحكومة تبذل جهودها في تدبير المال، لكن توفير مثل هذا المبلغ قد لا يكون صعبًا مع سياسة تقشف جاد وشامل، وإعادة ترتيب الأولويات، ووضع خطط تنموية مدروسة بعمق لا تتضمن أي مشروعات غير ضرورية أو مظهرية ودعائية أو بلا عائد استثماري، أو أن عدم وجودها لفترة لن يؤثر على سير الحياة وانتظامها في البلد.

ثلاثة ملفات مفصلية

أرى أن الأجدى من العلاوات الاستثنائية التي يلتهمها فورًا الثقب الأسود للغلاء والتضخم هو الاهتمام العاجل والحاسم بثلاثة ملفات مفصلية ترتبط بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، هى: الأسعار والدولار والجنيه.

إذا تمت السيطرة على انفلات الأسعار وتثبيتها لفترة ثم النزول بها في اتجاه الانخفاض، فهذا سيكون أفضل كثيرًا من أي 300 جنيه علاوة استثنائية، لأن العائد من خفض الأسعار سيكون أكثر من ذلك، وهنا بالتبعية سيتراجع التضخم الذي يلتهم أي زيادات أو مداخيل أو مدخرات ويتسبب في انكشاف كثيرين كانوا مستورين.

وتقوية الجنيه أمام الدولار سيسهم في نتائج إيجابية على الأسواق والغلاء والتضخم والركود والحياة القاسية، وهذا كله لن يتم إلا بسياسات جديدة مختلفة جذريًّا تقوم على قواعد الاستثمار والإنتاج والتصدير والتقشف الحقيقي والمواجهة العنيفة مع الفساد، والحريات، وهي الشرط اللازم لضمان وجود وفاعلية الحكم الرشيد.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان